إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
لقد أصبح عدم اليقين سمة مميزة من سمات حياتنا في القرن الحادي والعشرين، إلى درجة أن هايزنبرغ، الذي صاغ مبدأ عدم اليقين، لو كان حيا لكان سيفاجأ بالدرجة التي صارت فيها الأمور غير مستقرة وملتبسة . وهذا أمر يبعث على السخرية، إذ يفترض أن يكون هذا العصر هو عصر العقلانية المستنيرة والعلوم والحرية. ولكن حقائق عالم ما بعد الحداثة وما بعد الصناعة تروي قصة مختلفة.
ولا تقتصر مفارقات العصر الحاضر على مبدأ عدم اليقين. وكان من المفترض أن يصبح هذا عصر النزعة الإنسانية الراقية، عصر يحمي فيه "العالم الجديد الشجاع" كما كتب ألدوس هكسلي في روايته، حياة الإنسان ويحافظ على كرامته. وعدت الحداثة بالعدل والحرية والمساواة للجميع، ولكننا نشهد بعضا من أكثر الفظائع الوحشية اللاإنسانية التي تحدث أمام أعيننا في القرن الحادي والعشرين. إن أزمة اللاجئين العالمية وحدها كافية لإظهار مستوى النفاق والمعايير المزدوجة في مواجهة المثل السامية للنظام العالمي الحالي. إن قصة اللاجئين السوريين والليبيين والأفغان والصوماليين والروهينغا وغيرها ،قصة مخزية من اللامبالاة والازدراء. إن حقيقة أنهم مسلمون تكشف عن التصورات العرقية المركزية للحالة الإنسانية في العصر الحاضر.
يشكل عدم اليقين جانبا كبيرا من النظام العالمي الحالي. وتزيد القوى العظمى، والمنافسات بين الدول القومية، والحروب بالوكالة، والحروب الأهلية، ومصالح الشركات عبر الوطنية إلى جانب العوامل الأخرى من تعقيد الحالة الراهنة للعالم. وأصبحت القيم والمصالح متباينة لدرجة أنه صار من المستحيل إيجاد وسيلة من شأنها أن تبقي المجتمعات العالمية معا بطريقة سلسة. إن عدم اليقين في العصر الحاضر والمستقبل لا يقدم سوى القليل من التوجيه لعالم أفضل.
على أن عدم اليقين ليس أمرا سيئا، فقد يعلمنا أمرا أو أمرين عن حالة الإنسان والقيود المفروضة على قوتنا الموهومة، حيث يجعلنا عدم اليقين مستعدين لما هو غير متوقع، ويبقينا في حالة حماس ونشاط في مواجهة المفاجآت الجيدة أو السيئة، بحيث يجبرنا على توخي مزيد من الحذر إزاء مجموعة معقدة من المشاكل بطرق شاملة وليست حصرية.
والأهم من ذلك أن عدم اليقين قادر على أن يعلمنا التواضع، وهو فضيلة رئيسية نسيناها في العالم الحديث. وضعت فلسفة التنوير الإنسان في مركز الكون اللانهائي المنتظم ذاتيا، وتخلصت من مفاهيم القرون الوسطى، من الله وخلق العالم المحدود. ومن ثم فقد جعلت البشر سادة الكون. وبفضل الوسائل والقدرات التي يوفرها التقدم العلمي والتكنولوجي، ظن رجال التنوير أنفسهم سادة العالم الجدد. ولم يمر وقت طويل على هذا "السيد" حتى يتحول إلى مستغل ومفسد.
إن لعب دور الإله لا يخدم البشر، فلسنا نحن السادة، ولكننا بالأحرى الأوصياء والأمناء على للكون. لقد أُعطينا عالم الطبيعة (أمانة) ونحن مكلفون بواجب رعاية هذه الأمانة. تكشف الغطرسة المتطرفة لسادة الكون عن نفسها في كل مكان من العنصرية القديمة في ثوبها الجديد التي تضع بعض البشر فوق الآخرين، بوصفهم سادة .
إن القيام بدور الوصي على الكون لا يعني رفض العنف أو الوقوف موقف اللامبالاة تجاه العالم، بل على العكس من ذلك، فإنه يقيم علاقة أكثر توازنا وإنسانية وإنتاجية بين البشر وعالم الطبيعة. وهذا يعني تلبية احتياجات الإنسان واهتمامه مع حماية البيئة الطبيعية.
قد لا يكون عدم اليقين شيئا مرغوبا فيه في كل شيء. اليقين هو عنصر أساسي في معتقداتنا وأفعالنا. ولكن بالنظر إلى غطرسة الحضارة الحديثة التي بنيناها وغرورها، فقد يكون من الحكمة الاعتراف بمحدوديتنا، وأن نسلك سلوكا متواضعا تجاه البشر الآخرين والكون الذي نحن جزء منه. إننا بتدمير الكون الذي ندعي أننا سادته، فإننا ندمر حاضرنا ومستقبلنا. وآمل أن ندرك هذه الحقيقة البسيطة الأساسية قبل فوات الأوان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس