سعيد الحاج - المعهد المصري للدرسات
يطلق مصطلح "الكيان الموازي" أو "التنظيم الموازي" في تركيا على القيادة المتنفذة في جماعة "الخدمة" التي أسسها فتح الله كولن، والتي تغلغلت على مدى عشرات السنين في أجهزة الدولة المختلفة والمصنفة كمنظمة إرهابية في تركيا على خلفية اتهامها بعدة جرائم في مقدمتها المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016.
بعد الانقلاب الفاشل، بدأت الحكومة التركية حملة مكافحة واسعة للتنظيم مستهدفة تطهير مؤسسات الدولة من كوادره، خصوصاً أولئك المرتبطين بشكل مباشر بالمحاولة الانقلابية. وقد أوقف القضاء التركي فعلاً عشرات الآلاف منهم على ذمة قضايا تتعلق بقلب نظام الحكم وعضوية منظمة إرهابية مسلحة وغيرها من التهم، بينما استطاع عدد غير قليل منهم الهرب إلى خارج تركيا أو التخفي عن عيون السلطات حتى الآن.
وكان من أهم الأدلة التي ساقها القضاء ضد أفراد التنظيم وسائل تواصل خاصة فيما بينهم وأهمها تطبيق "بايلوك" (Bylock ) على الهواتف الذكية والذي أثبتت السلطات أنهم استخدموه للتواصل قبل الانقلاب وخلاله، إضافة للأدلة الأخرى الاعتيادية في القضايا المشابهة. و"بايلوك" هو نظام مراسلة شبيه بتطبيقات المحادثة العادية مثل "واتس أب" وغيره، لكنه خاص جداً لتصعيب التتبُّع، بحيث لا يمكن لأي شخص الانضمام للمحادثات إلا بإضافته من قبل مستخدمين سابقين وبحيث لا يُعرّف المتصل باسمه أو رقم هاتفه بل برمز مشفّر (İ.D. ) يفترض أن يعرفه من يريد التواصل معه.
ورغم المكافحة الواسعة للتنظيم على يد الحكومة التركية منذ الانقلاب حتى الآن، كان لافتاً أن الرهان الغربي – الأمريكي والأوروبي – على التنظيم لم ينته بعد كما كتبت أكثر من مرة 1، بدليل مماطلة الولايات المتحدة في التعاون مع أنقرة في التحقيق مع كولن المقيم على أراضيها فضلاً عن استعدادها لتسليمه وإعطاء عدد من الدول الأوروبية حق اللجوء السياسي لعدد كبير من ضباط التنظيم المشاركين في الانقلاب الفاشل أو المتهمين بالمشاركة به على أقل تقدير.
استمرار هذا الرهان يوحي بأن ورقة التنظيم لم تـُحرق بعد لدى هذه الدول، وتزامن ذلك مع رسائل كانت توصلها قيادة التنظيم لأفراده الموقوفين على ذمة التحقيق بضرورة الصمود وتبشرهم فيها بالحل و"الفرج القريب". صحيح أن ذلك قد لا يعني أكثر من حرب نفسية ومحاولات لتثبيت كوادر التنظيم لكي لا يعترفوا بما لديهم، لكنه قد يشير أيضاً إلى أوراق قوة ما زال التنظيم يمتلكها خصوصاً لجهة عدم الكشف عن كامل هرمه التنظيمي بسبب السرية التامة والمعقّدة التي يعتمدها منذ عشرات السنين. ولعل ذلك أحد أهم أسباب عدم تهاون الحكومة في هذا الملف واستمرار تحفزها فيه رغم حالة الاستقرار والسيطرة الظاهرة، حيث تلفت الأنظار بعض التصريحات الحكومية بين الحين والآخر والتي تتحدث عن نسب متدنية نسبياً (20-30%) وصلت لها حملة مكافحة التنظيم حتى الآن.
وباعتبار أن نظام بايلوك هو الدليل الأقوى في مواجهة التنظيم وهو الذي ساعد على توقيف العدد الأكبر من المتهمين، وباعتباره مسألة تقنيّة وسرّية، كان من المنطقي توقع محاولات من التنظيم للتشكيك بمصداقيته لفتح الباب أمام إمكانية التشكيك بالقضايا كلها سعياً لإبطالها وتبرئة المتهمين من أعضاء التنظيم.
مؤخراً، وفي هذا السياق، حصل تطوران لافتان يستحقان العناية والاهتمام:
الأول، في بيان أصدره قبل أيام، تحدث المدعي العام الجمهوري في أنقرة عن 11480 شخصاً من الموقوفين والموجود تطبيق بايلوك على هواتفهم الذكية، قد أظهرت التحقيقات أنهم "وجِّهوا بشكل لا إرادي للتطبيق" من خلال حيلة لجأ إليها أحد مبرمجي التنظيم. الحيلة، التي المسماة "العقل البنفسجي" (MOR BEYİN )، تدور حول روابط سرية توجِّه أشخاصاً عاديين إلى نظام بايلوك بشكل تلقائي وغير ظاهر لهم لدى محاولتهم تحميل تطبيقات عادية على هواتفهم مثل أوقات الصلاة أو وجهة القِبلة أو بعض القواميس اللغوية أو تطبيقات موسيقية.
لحظ المحققون أن هؤلاء الأشخاص الـ 11480 ارتبطوا بـ"خادم" بايلوك لكن دون أي مشاركة أو كتابة او رسائل أو تواصل لهم على التطبيق مع أي أحد، الأمر الذي دفع إلى مزيد من التحقيق وكشف الحيلة المذكورة. وقد ذكر بيان المدعي العام أنه سيطلب إخلاء سبيل 1000 شخص من الموقوفين ليس عليهم أي دليل آخر سوى تطبيق بايلوك، وقد بدأت الإخلاءات فعلاً، فكان أولهم المحامي مصطفى يامان عضو الهيئة الإدارية لفرع حزب السعادة في إسطنبول.
الثاني، بطريقة مفاجئة، سلم مسؤول حماية قائد القوات البرية الفريق أول يشار جولار النقيب بوراك أكين نفسه لفرع مكافحة الإرهاب في مديرية الأمن في أنقرة، معترفاً بأنه عضو في الكيان الموازي ومعترفاً بدور لعبه ليلة الانقلاب، ومبرراً تسليم نفسه الآن بـ"ضغوطات يمارسها عليه التنظيم الموازي لم يعد يحتملها".
اللافت في موضوع هذا الضابط أنه كان قد أعلِنَ بطلاً ليلة الانقلاب الفاشل وقــُلــِّدَ وساماً/ميدالية لـ"مقاومته الانقلابيين"، حيث أظهرت تسجيلات الكاميرات ليلتها إصابته في رجله وتعامل الانقلابيين معه بطريقة فظة حينئذ.
قد يصح فعلاً أن النقيب قد سلم نفسه من تلقاء نفسه وللسبب الذي ذكره، لكن الأرجح في تنظيم كهذا يعمل بسرية تامة وطاعة عمياء أن يكون سلم نفسه بأوامر من التنظيم. فما الذي يعنيه ذلك؟
إن التطورَيْن سالفَيْ الذكر يشيران بوضوح إلى هدف يسعى إليه التنظيم وهو التشكيك بتطبيق بايلوك كدليل قوي على عضوية التنظيم الموازي، سعياً للتشكيك بالقضية بكاملها. فمن جهة، هناك آلاف الأشخاص الذي يملكون التطبيق لكنهم برِّؤوا أو سَيُبرَّؤون، ومن جهة أخرى هناك ضابط برتبة عالية في التنظيم وشارك فعلياً في الانقلاب الفاشل لكنه بقي خارج السجن ولا دليل عليه.
قد يبدو هذا الكلام استغراقاً في نظرية المؤامرة، لكنه ليس كذلك لمن يعرف طرق عمل التنظيم وسريته وانضباطه العالي ومركزيته، ويبقى احتمالاً قائماً بكل الأحوال. وعلى الأقل، تبدو تصريحات الحكومة، بأن التحقيقات والقضايا حتى الآن لم توقع إلا بنسبة محددة من قيادات وكوادر التنظيم وأن هناك عدداً كبيراً منهم ما زال حراً طليقاً وعلى رأس عمله، تبدو هذه التصريحات واقعية وتنذر بحساسية هذه القضايا في وضعها الحالي، وهذا من أهم تفسيرات استمرار حالة الطوارئ في البلاد حتى الآن، فكيف لو وصل الأمر للتشكيك بالأدلة والقضايا القائمة ؟!.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس