إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
قبل عقدين من الزمن أثار كتاب صمويل هنتنغتون "صراع الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي" آخر نقاش كبير حول الحضارة. وبغض النظر عن نوايا هنتنغتون، فقد استخدم هذا النقاش لتبرير المخططات الإمبريالية الجديدة في أعقاب نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، كما أنه قوض إمكانية إجراء أي نقاش هادف لمفهوم التحضر والحضارة. ومن ثم فنحن بحاجة إلى أن نكون حذرين للغاية نظرا للتاريخ المشبوه لهذا المفهوم، ولكن هذا لا يعني أن نترك الأمر جملة وتفصيلا.
استخدمت الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر دون حياء كلمة الحضارة لتأسيس منظومة هرمية للثقافات والمجتمعات وتبرير سياساتها من الاحتلال والاستغلال. وطُرحت المهمة الحضارية بوصفها عملية فرضت على غير الأوروبيين من أجل مصلحتهم الخاصة، مصحوبة بتلميحات إنسانية وأخلاقية لا تخلو من تعظيم الذات. ولكن الواقع هو أن المغامرات الإمبريالية الأوروبية لم تجلب الثقافة أو القانون أو النظام أو الحضارة إلى آسيا أو أفريقيا، بل إنها خلقت تصدعات عميقة بين الشعوب الأوروبية وغير الأوروبية. لقد بشر عشرات المفكرين الأوروبيين من كارل ماركس وروديارد كيبلينغ إلى جون ستيوارت ميل وتوماس ماكولي، بنعمة التدخلات الغربية فيما أطلق عليه المجتمعات الآسيوية المتخلفة، لكن الحقيقة البسيطة هي أنه لا يوجد شيء متحضر أو إنساني أو فضيلة في الاستعمار والإمبريالية.
هل تغيرت المعايير الثقافية كثيرا منذ القرن التاسع عشر لتبرير الاستخدام السليم لمصطلح الحضارة؟ يعتمد ذلك على الكيفية التي ينظر بها المرء إلى مصطلح الحضارة، ذلك أن رغباتنا تشهد تغييرات كبيرة للتغلب على الهرمية الثقافية والحضارية لمصلحة الإنسانية المشتركة، ومن ثم فإن صعود خطاب التعددية والتعددية الثقافية والتعايش أمر جدير بالثناء، وربما يستحق مزيدا من التوضيح. بيد أن إرث الاستعمار ما يزال قويا للغاية في القرن الحادي والعشرين مترافقا مع مفاهيم جديدة ومصفوفات الهيمنة والسيطرة ومزاعم التفوق.
وهذا يجعل النقاش حول الحضارة محفوفا بالمخاطر، على أقل تقدير. ومهما حاولنا إنقاذ المفهوم من المتلاعبين الإمبرياليين، فإن التاريخ ما يزال يطاردنا في أفريقيا وكثير من أرجاء الشرق الأوسط وآسيا وأماكن أخرى. وليس هذا التاريخ فقط هو ما يستوقفنا من جديد فحسب، بل هو الواقع غير المنصف وغير المتوازن للنظام العالمي الحالي الذي يجبرنا على التشكيك في وعود العالم الجديد الشجاع.
هناك عنصر آخر، من الناحية النظرية يجعل النقاش حول الحضارة محل ارتياب، فقد كان لهجوم ما بعد الحداثة على أي سرد كبير أثره السلبي في جميع المفاهيم والأفكار الرئيسية التي استخدمت لفهم رحلة الإنسانية على الأرض. ترى دوائر ما بعد الحداثة والدوائر المناهضة للواقعية أن الحضارة شيء غير محدد المعالم وأكبر من أن تستخدم في فهمنا للثقافة أو المجتمع أو التاريخ أو الفرد. والحضارة، وفقا لما بعد الحداثة، تمعن في التعميم، ونتيجة لذلك تغفل التفاصيل المهمة والفروق الدقيقة.وحيث إن عصر السردية الكبرى قد انتهى، ينبغي لنا أن نتخلى عن هذه المصطلحات الفخمة مثل مصطلح الحضارة.
لا تنتهي القصة عند هذا الحد، كما يريد مفهوم ما بعد الحداثة، لكن المفارقة العجيبة أن ما بعد الحداثة نفسها أصبحت سردا كبيرا تزيد من غموض فهمنا للعالم الذي نعيش فيه أكثر مما توضح، وكثيرا ما تكتنف إسهاماتها التحليلية ميولها العدمية المعادية للواقعية. وعلاوة على ذلك، فإن الحقائق التي نعيشها على أساس يومي تشير إلى مخططات كبرى تظهر في السياسة العالمية للتمويل الدولي. ولأننا نفكر فقط في وحدات أصغر وربما بمزيد من الرعاية المفاهيمية التي لا تجعل العالم أكثر إتقانا وعدلا وأقل خطورة. وما تزال الحروب والاحتلال وسباق التسلح وأسلحة الدمار الشامل وانتشار الثقافة الاستهلاكية والترفيهية مستمرة بلا هوادة، في حين أن الغاية الأسمى للعالم الجديد الشجاع، أي الشخص العقلاني المستقل والحر، يسحق تحت هذا كله. وهذه الحقائق حديثة للغاية تعود إلى القرن التاسع عشر والقرن العشرين ولم تتغير كثيرا، حيث إن تفكير ما بعد الحداثة لا يمكن العالم من التغلب على انحراف العصرانية.
سيتطلب إنقاذ الحضارة من منتقصيها والمتلاعبين بها بذل جهود جادة، على أن تبدأ هذه الجهود من نقطة ما. لماذا؟ لأن ما يجعل مفهوم الحضارة هادفا ومناسبا ما يزال مهما لحاضرنا ومستقبلنا. ولعل استخلاص الدروس من التاريخ المعاصر لمفهوم الحضارة وتجنب أخطاء الماضي يمثل نقطة بداية جيدة. ولا ينبغي لنا أن نتسامى بالحضارة فنجعلها شيئا يستحق الاهتمام أو أن نستخدمها لأغراض سياسية.
يمكننا أن نتصور الحضارة بطريقة بسيطة ومتواضعة على أنها مجموع التصورات والمواقف والأعمال التي نعدها متحضرة. والتحضر مرتبط بالحياة الكريمة، كما وصفها أرسطو، وببناء مدينة فاضلة، كما قال الفارابي، وهو وسيلة لكي يكون المرء عقلانيا فاضلا متزنا محترما، وأن نستمتع بصحبة الآخرين حتى نثري أنفسنا بمساهماتهم بدلا من السعي إلى السيطرة عليهم أو استغلالهم، وهو أن نرى أنفسنا جزءا من واقع أكبر لسنا سادته، ولكن حراسه وخدمه،وهو الحس الأخلاقي والجمالي الذي يعطي كل شئ ما يستحقه ويبقي الأمور متوازنة.
هذه التعريفات البسيطة القليلة قد تساعدنا على معرفة المتحضر من غير المتحضر ومن يدعي امتلاك الحضارة. قد يكون لدى دولة أكبر اقتصاد وأقوى جيش وأكبر المدن في العالم، لكن هذا لا يجعلها متحضرة، ذلك أن الأعمال البربرية ليست غريبة على المجتمعات الصناعية الكبرى، وقد يكون الفلاحون البسطاء في أفريقيا أو آسيا في أرقى درجات التحضر بمواقفهم الإنسانية واهتمامهم بالطبيعة والحيوانات وبغيرهم من الناس. إن الافتقار إلى القوة الاقتصادية والمعدات التقنية لا يجعل أمة ما أقل تحضرا، إذ إن البراعة المادية يمكن أن تنزلق بسهولة إلى البربرية، كما رأينا في الحربين العالميتين والمحرقة النازية، والإبادة الجماعية في البوسنة، وتغير المناخ، وغيرها من الكوارث في العصر الحديث.
إن التباهي بسيطرتنا المادية على الطبيعة يبعدنا عن أي مفهوم للتحضر والحضارة. ولا أعتقد أننا يمكن أن ندعي أننا متحضرون مهما اشتط بنا الخيال، في الوقت الذي يموت فيه ملايين الناس جوعا ويجبرون على الهجرة ويصبحون لاجئين ويعانون من الفقر المدقع. إن الحضارة تبدأ بأعمال بسيطة وأساسية من الرعاية والاحترام والحب، وإذا لم يتمتع المرء بهذه الصفات، فلا يهم إذا كان يعيش في برج مانهاتن أو في الأحياء الفقيرة.
وباختصار، لا يمكننا أن ندعي أن لدينا حضارة دون أن نكون متحضرين أولا، والتحضر لا يرتبط بالممتلكات المادية أو امتلاك الأدوات التكنولوجية. بل بأن يكون المرء إنسانا بكل ما تحمله كلمة إنسان من معنى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس