ترك برس
ماذا كان يفعل هذا الحارس العثماني؟ وكيف اكتشف وجوده؟
توجه وفد إعلامي وسياسي تركي للقدس في زيارة رسمية، وكان من بينهم الصحفي التركي إلهان بردكجي لمراقبة التطورات واﻷحداث في زيارة لأربعة أيام في أيار/ مايو عام 1972.
في آخر يوم في الزيارة، وكما يروي بردكجي: "نظمت لنا جولة إلى اﻷماكن التاريخية والسياحية في هذه اﻷراضي، وكنت متلهفا لرؤية القدس والمسجد اﻷقصى، وكان الجو حارا وجسمي يتصبب عرقا."
"وصلنا إلى المسجد اﻷقصى ضمن القافلة وكنت منفعلا ويداي ترتجفان في أثناء تصويري له، وصعدنا الفناء العلوي، فناء الاثني عشر ألف شمعة."
سمي الفناء بذلك لأن السلطان سليم اﻷول عندما فتح القدس ،كان قد أشعل فيه اثني عشرة ألف شمعة، وصلى الجيش العثماني صلاة العشاء في ضوء تلك الشموع في عام 1516.
لفت نظر الصحفي رجل في التسعينيات من العمر يرتدي بذلة عسكرية قديمة جدا ومليئة بالرقع، يبدو أنّها أعيد ترقيعها عدة مرات، ويضع على رأسه أنورية، يقف بشموخ وإباء تحت الشمس الحارقة.
فسأل الصحفي الدليل عن هذا الرجل، فأجابه: "منذ أن وعيت وأنا أراه في هذا المكان يقف كالتمثال كل يوم حتى المساء، لا يتكلم مع أحد ولا يرد على أحد، لعله مجنون."
وبفضوله الصحفي، اقترب منه ووصفه بقوله: "كان لباسه قديما جدا باهت اللون ولكنه كان نظيفا... ألقيت عليه السلام، فأدار بوجهه نحوي وتفحصني بطرف عينيه، ثم قال بصوت خافت مرتجف: وعليكم السلام (بنبرة تركية)."
حارس عثماني
يقول بردكجي: "اقشعرت أناملي فجاة، أيعقل أن يكون رجلا تركيا؟ ولكن ما الذي جاء به إلى هنا؟. فسألته بفضول شديد: من أنت؟ وماذا تفعل هنا يا عم؟."
"رد بصوت خافت مرتجف: "أنا.. أنا العريف حسن اﻹغدرلي رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الكتيبة الثامنة الطابور السادس والثلاثين من الفرقة العشرين في الجيش العثماني"، وأعاد تعريف نفسه مرة أخرى بصوت أقوى من ذي قبل، و كأنه يريد إثبات وجوده ومتانته."
"أصبت بالدهشة، وانطلقت الكلمات من بين شفتي دون إرادة مني: "ماذا؟ أنت عثماني!"، قال بكل فخر "نعم"."
"فقلت له: "وماذا تفعل هنا؟"، فأجاب: "لقد هاجم اﻹنجليز كتيبتنا في الحرب العالمية اﻷولى من جهة القناة حيث كان الجيش العثماني العظيم يحارب في عدة جبهات، رغم قلة المعدات الحربية وإمكاناته الضيقة، فغلب جيشنا في القناة واضطر إلى الانسحاب، فقد كانت بلاد أجدادنا اﻷمجاد تسقط واحدة تلو اﻷخرى، وعندما احتل اﻹنجليز القدس في عام 1917، بقيت وحدتنا في القدس كقوة "حرس مؤخرة الانسحاب"، التي تركها العثمانيون لحماية هذه البلدة المباركة من السلب و النهب، إلى حين دخول اﻹنجليز اليها (حيث كانت الدول قديما عندما تحتل مدينة تطلب من الدولة المهزومة أن تبقي حرسا مؤخرة لئلا يثور الناس ضدها)، لذلك طلب اﻹنجليز بقاء القوة التي سُمّيت قوات "حرس مؤخرة الانسحاب"."
واستطرد اﻹغدرلي: "بقينا في القدس وكنا 53 شخصًا كحرس مؤخرة، وفي أثناء ذلك وصلنا خبر تسريح جيش الدولة العثمانية باتفاقية موندروس."
"عندها قال اليوزباشي النقيب مصطفى للحراس "أيها اﻷسود.. إن الدولة العثمانيّة العليّة في ضيق كبير... جيشنا المجيد يسرح... والقيادة تستدعيني إلى إسطنبول.. يجب أن أذهب وأُلبّي اﻷوامر وإلا أكون قد خالفت شروط الهدنة ورفضت الطاعة، فمن أراد منكم العودة إلى بلاده فليفعل.. ولكن أقول لكم إن القدس أمانة السلطان سليم خان في أعناقنا فلا يجوز أن نخون هذه اﻷمانة أو نتخلى عنها، فأنا أنصحكم بالبقاء حراسا هنا، كي لا يقال إن الدولة العثمانية تخلت عن القدس وغادرته، وإذا تخلت دولتنا عن أول قبلة لفخر الكائنات سيدنا محمد ﷺ، فسيكون ذلك انتصارا حقيقيا ﻷعدائنا، فلا تضعوا عزة اﻹسلام وكرامة الدولة العثمانية تحت اﻷقدام".
ويكمل اﻹغدرلي حديثه: "فبقيت وحدتنا كلها في القدس، ﻷننا لم نرضَ أن يقال إن الدولة العثمانية تخلت عن القدس، أردنا ألا يبكي المسجد اﻷقصى بعد أربعة قرون، وألا يتألم نبينا الكريم."
ثم تعاقبت السنوات الطويلة ومضت كلمح البصر، ورفاقي كلهم انتقلوا إلى رحمة الله تعالى واحدا واحدا، لم يستطع اﻷعداء أن يقضوا علينا، وإنما القدر والموت، وها أنا ذا العريف حسن لا زلت على وظيفتي حارسا على القدس الشريف... حارسا على المسجد اﻷقصى".
يروي بردكجي: "امتلأت عيناه بالدموع واختلطت دموعه بعرقه الذي يتصبب من جبينه ثم نظر إلي نظرة رجاء، قائلا: "يا بني عندما تعود إلى اﻷناضول، اذهب إلى سنجق توكات، فهناك ضابطي النقيب مصطفى وهو الذي أودعني حارسا على المسجد اﻷقصى ووضعه أمانة في عنق، فقبّل يديه عني وقل له: "سيدي الضابط إن العريف حسن اﻹغدرلي رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة ما زال قائما على حراسته، في المكان الذي تركته منذ ذلك اليوم ولم يترك نوبته أبدا وإنه ليرجو دعواتكم المباركة."
"وعندما علم بقدومي من إسطنبول، سألني عن أحوال الدولة العثمانية، فلم استطع إخباره بما فعل بها اﻹنجليز واﻷرمن والروم وفرنسا، وقلت له: "دولتنا بخير"، فسألني بفضول شديد: "إن كانت دولتنا بخير لم لا تأتي وتخلص القدس من هؤلاء الكفرة"، فأجبته: "إن شاء الله ستعود يوما."
ثم أقبلت على يديه الخشنتين وقبلتهما بحرارة وودعته وطلبت منه الدعاء، فقال لي: "بلغ سلامي للأناضول وسلم على الدولة العليا."
"وعدت إلى قافلتي تغمرني الدهشة وبدا لي وكأن تاريخ أجدادنا المجيد عاد حيا وانتصب واقفا أمامي... ما زال جندي من جنود الدولة العثمانية يقوم بحراسة القدس منتصبا هناك بوقار ومهابة الدولة العثمانية."
"وشرحت للدليل قصة العريف حسن، وأعطيته عنواني وطلبت منه إخباري عن أحواله. وعندما عدت إلى تركيا ذهبت إلى سنجق توكات، وعثرت على عنوان النقيب بعد جهد جهيد، إلا إنه كان متوفيا منذ سنوات طويلة، فلم استطع أن أفي بعهدي."
وفاة الحارس العثماني
يختم بردكجي: "تعاقبت السنوات، وفي عام 1982 كنت أعمل في وكالة أنباء، جاءتني برقية من القدس الشريف، وإذا هي من الدليل، وفيها بضعة كلمات لكنها تلخص تاريخا مجيدا فيه شجاعة وعزة وكرامة: "لقد توفي اليوم آخر حراس اﻷقصى". وقد كان عمره 93 سنة."
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!