أحمد طلب - ساسة بوست
في 31 مارس (آذار) الماضي قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم: «إن بلاده حققت النمو الاقتصادي الأعلى في العالم خلال العام الماضي»، واصفًا كفاح حكومته من أجل تحقيق هذا النمو بالتاريخي، وذلك بعد أن وصل معدل نمو اقتصاد تركيا إلى 7.4 % خلال 2017، وفي الوقت الذي تتفاخر فيه الحكومة التركية، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بهذا النمو القوي، لا ترى بعض المؤسسات المالية العالمية أن هناك طفرة يشهدها الاقتصاد التركي، بل إن الأمر وصل إلى أن وكالة «موديز» خفضت التصنيف الائتماني للبلاد، وهو ما يعد عدم اعتراف بهذا النجاح التي تتحدث عنه الحكومة.
إذًا هل أرقام النمو التي كشفت عنها الحكومة حقيقية؟ أم أنها لا تعكس الواقع الاقتصادي؟ ولماذا تنخفض الليرة؟ وكيف يزداد العجز التجاري رغم قفزة الصادرات؟ كل هذه أسئلة تجعل المتابعين للاقتصادي التركي في الوقت الحالي يعيشون حالة من الغموض، وسط تضارب الآراء وتعدد الأرقام، وسنحاول خلال هذه التقرير توضيح هذه الصورة، وذلك من خلال مناقشة هذه المتغيرات للوصول إلى الواقع الحقيقي الذي يعيشه الاقتصاد التركي الآن.
صادرات قياسية لكن العجز قياسي كذلك
تعد انتعاشة الصادرات التركية من أهم ملامح المرحلة الحالية، سواء منذ بداية العام الجاري، أو خلال العام الماضي، وهي كذلك أحد الأرقام المهمة التي دائمًا ما تسعى الحكومة التركية لإبرازها والحديث عنها، ولكن بالرغم من القفزة القياسية في رقم الصادرات، يسجل العجز التجاري مستويات قياسية، وهو الأمر الذي يقوض الفوائد من انتعاش الصادرات، فعلى مستوى 2017 أظهرت بيانات وزارة الجمارك والتجارة التركية أن العجز التجاري في تركيا زاد 37.5% إلى 77.06 مليار دولار.
إذ سجلت الصادرات زيادة في العام الماضي بنسبة 10.2% إلى 157.09 مليار دولار، في حين ارتفعت الواردات 17.9% إلى 234.16 مليار دولار، هذا الخلل الواضح في الميزان التجاري لم يتوقف مع بداية 2018؛ فالصادرات تواصل الصعود بالفعل، لكن الواردات تنمو بنسب أعلى، فبحسب بيانات وزارة الجمارك والتجارة فإن العجز التجاري زاد 27.89% على أساس سنوي في مارس الماضي ليصل إلى 5.82 مليار دولار؛ إذ نمت الصادرات 8.01% إلى 15.6 مليار دولار والواردات 12.8% إلى 21.4 مليار في الفترة ذاتها.
أرقام مارس بالرغم من أنها تشير إلى نسبة عجز كبيرة، إلا أنها تكشف عن تحسن كبير مقارنة بفبراير (شباط) الماضي، عندما وصل العجز التجاري إلى 54%، لكن وبحسب جمعية المصدرين الأتراك، فإن صادرات مارس كانت الأعلى في تاريخ الجمهورية التركية، فلأول مرة في تاريخ تركيا تتجاوز الصادرات حاجز الـ15 مليار دولار خلال شهر واحد، فيما تأمل البلاد أن توقف الصادرات تفاقم العجز في الحساب الجاري الذي يواصل الارتفاع بسبب واردات الطاقة والسلع غير المنتهية.
لكن قد يتبادر إلى الأذهان تساؤل حول زيادة الواردات التي تسجل ارتفاعًا مستمرًا، وهو: لماذا لا تتخذ الحكومة موقفًا لوقف هذا الصعود؟ وذلك مثل كثير من الدول في المنطقة التي تلجأ إلى فرض مزيد من الرسوم الجمركية لكبح جماح الواردات، وفي الواقع الأمر في تركيا مختلف بعض الشيء؛ فالمنتجات التركية التي تصنع داخل تركيا بغرض التصدير كثير من مكوناتها مستوردة من الخارج، وهو ما يعني أنه كلما ارتفعت الصادرات، تميل الواردات إلى اتباعها، لذلك فمن الصعب أن تسيطر تركيا على هذا الأمر بسهولة، ولا نجد الحكومة تتحدث عن هذا الأمر كثيرًا.
وخلاصة هذا الأمر أنه بالرغم من أن تركيا قطعت شوطًا كبيرًا في اتجاه وضع نفسها في مصاف الدول التي تعتمد على التصدير كمصدر أساسي للدخل، إلا أنها تدفع ضريبة ذلك من خلال زيادة الواردات التي تؤدي بالتالي إلى عجز كبير في الميزان التجاري، وهنا عندما نقول إن الصادرات حققت نموًا مذهلًا فهذه حقيقة، لكن يجب أن يتم مناقشتها بواقعية أيضًا والحديث عن أن هناك عجزًا في الميزان التجاري لا يمكن إهماله.
لماذا تهبط الليرة رغم نمو الاقتصاد؟.. السر في أردوغان
على الجانب الآخر تبقى حالة العملة التركية أحد أهم ملامح الوضع الحالي الذي يسيطر عليه كثير من الغموض والتضارب، فبالرغم من الحديث عن قفزة كبيرة في النمو الاقتصادي والصادرات تواصل الليرة الهبوط على مدار الأشهر الماضية، بينما يتوقع المحللون أن تواصل نفس المسار خلال الأيام القادمة، ولكن لماذا لا تتجاوب الليرة بشكل إيجابي مع الوضع الاقتصادي الذي يبدو في مجمله جيدًا وفق أرقام الحكومة؟
في العاشر من أبريل (نيسان) الجاري، سجلت الليرة التركية مستويات قياسية منخفضة جديدة مقابل الدولار واليورو لتسجل أكبر هبوط ليوم واحد في خمسة أشهر؛ إذ لامست العملة التركية أدنى مستوى على الإطلاق عند 4.1394 ليرة للدولار، بينما هوت إلى مستوى قياسي منخفض مقابل العملة الأوروبية الموحدة عند 5.1166 ليرة لليورو، وهو الأمر الذي يجعلها ضمن أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداءً منذ بداية العام الحالي، حيث تواصل الهبوط منذ مطلع 2018.
لكن يبقى السؤال ما هي الأسباب التي تقود الليرة للهبوط؟ هل هي أسباب اقتصادية بحتة؟ أم أنها خلاف ذلك؟ وفي الواقع لا نجد في الغالب أخبارًا تتحدث أن الليرة تراجعت بفعل نمو اقتصادي ضعيف، أو هبوط في الاستثمارات، أو خلاف ذلك من المؤثرات الاقتصادية التي قد تقود العملة للهبوط، ولكن على مستوى الأشهر الماضية، فدائمًا ما يكون السبب الأساسي للهبوط، إما سياسيًا أو أمنيًا، وإما متعلقًا بمخاوف بشأن تدخل الحكومة في السياسة النقدية لخفض سعر الفائدة. وتعتبر سوق العملات من أكثر الأسواق حساسية بالأوضاع السياسية، لذلك نجد الليرة تتحرك صعودًا مع الاستقرار السياسي، وهبوطًا في ظل وجود أي توترات سياسية أو تفجيرات داخل تركيا بالإضافة إلى المشاركة العسكرية التركية في سوريا، وكل هذه الأسباب تقريبًا موجودة حاليًا، وهو الأمر الذي يجعل هبوط الليرة أمرًا طبيعيًا، لكن كما ذكرنا ليس هذا هو السبب الوحيد.
السبب الآخر البطل فيه هو الرئيس التركي، والذي يخوض صراعًا مع البنك المركزي التركي حول سعر الفائدة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وهذا الصراع يبدو أن نهايته ليست قريبة، فأردوغان متمسك بموقفه مطالبًا بضرورة خفض الفائدة لدعم الاستثمار، بينما يريد المركزي السيطرة على معدلات التضخم من خلال رفع الفائدة، ففي أبريل الجاري جدد أردوغان مطالبه بخفض أسعار الفائدة من أجل «إنقاذ» المستثمرين، على حد تعبيره، وهو التصريح الذي قاد الليرة لهبوط حاد في اليوم التالي.
وتصدم رغبة أردوغان في خفض تكلفة الاقتراض لتعزيز الاستثمار وتحفيز الاقتصاد، مع قلق المستثمرين من التضخم والعجز في الحساب الجاري؛ إذ يرون أن المركزي بحاجة إلى تشديد السياسة النقدية، ورفع سعر الفائدة لدعم الليرة، وبين رغبة أردوغان وآمال المستثمرين تواصل الليرة التراجع، فمتى يتوقف نزيف العملة التركية هذا؟
في الواقع لا شك أن هذا السؤال يشغل بال الجميع في تركيا على كل الأصعدة، سواء الحكومة، أو المستثمرين، وكذلك المواطن التركي الذي يفقد يوميًا كثيرًا من قيمة نقوده، والإجابة متعلقة بالطبع بالأسباب المذكورة، ففي حال استقر الوضع السياسي والعسكري، وتوقف صراع أردوغان مع المركزي؛ فستتحسن الليرة، والعكس يعني استمرار التدهور، وربما بوتيرة أكبر.
التضخم.. الصخرة الصلبة التي تحطم الإنجازات
يمكن القول إن ارتفاع وانخفاض الأسعار هو أهم مؤشر يستخدمه المواطن للحكم على اقتصاد بلاده، فقد لا يهتم كثير من الأتراك بنسبة النمو وزيادة الصادرات أو قيمة عجز الميزان التجاري، وربما لا يشغلهم أيضًا التصنيف الائتماني أو معدل الفائدة، ولكن الأكيد أن ما يشغلهم دائمًا هو أسعار السلع التي يشترونها يوميًا هل ترتفع أم تنخفض؟ هذا هو الإنجاز الذي يعنيهم في المقام الأول، ففي حال فرضنا أن النمو الاقتصادي تجاوز الـ10% ولكن تواصل الأسعار مسارها الصعودي، فبالتأكيد لن يعترف المواطن التركي بهذا الإنجاز، لكن إذا فرضنا أن معدل النمو أقل من 5% مع هبوط ملحوظ لأسعار السلع، فسيكون ذلك بالنسبة له إنجازًا كبيرًا.
منذ نحو أربعة أشهر كشفت بيانات تركية رسمية عن أن معدل التضخم في البلاد بلغ أعلى مستوياته في 14 عامًا خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي؛ إذ زادت أسعار المستهلكين 12.98% على أساس سنوي، وسط ارتفاع تكاليف النقل والغذاء، وبالطبع لم يشعر المواطن التركي في هذا الشهر بأي نوع من الإنجاز، خاصة أنه كان في انتظار هبوط للتضخم حسب ما توقع نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك في سبتمبر (أيلول) أن يتراجع التضخم السنوي عن مستوى 10% بحلول نهاية 2017، وهو ما لم يحدث.
وبالرغم من أنه حسب آخر البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء التركي تراجع تضخم أسعار المستهلكين إلى 10.23% في مارس، لكنه يظل أعلى كثيرًا من المستوى الذي تستهدفه الحكومة عند 5%، لكن مع مواصلة الليرة تراجعها، فمن المتوقع أن يعاود التضخم الصعود مرة أخرى، إلا أن مستشار الرئيس التركي، جميل أرتيم، يقول: إن التضخم في بلاده سيسجل «انخفاضات كبيرة» خلال النصف الثاني من 2018، وأن الحكومة ستنفذ إصلاحات اقتصادية قوية، فهل تتمكن الحكومة هذه المرة من كبح جماح التضخم لتثبت نظريتها بشأن الطفرة الاقتصادية الحالية؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.
«موديز» أم الحكومة.. من المحق أكثر بشأن الاقتصاد؟
لا تكاد تهدأ الأوضاع بين تركيا ووكالات التصنيف الائتماني بشكل عام، ووكالة موديز بشكل خاص، حتى تشتعل مرة أخرى، ومع كل تصنيف سيئ يكون الرد التركي أن موديز تعمل وفق دوافع سياسية، لكن ربما كان التضارب كبيرًا بين رؤية الحكومة لاقتصادها وتقديرات موديز، إذ خفضت الوكالة منذ نحو شهر من الآن تصنيفات تركيا السيادية إلى (Ba2) من (Ba1) مشيرة إلى استمرار ضعف مؤسساتها الاقتصادية والسياسية وتنامي المخاطر من العجز الكبير في ميزانها للمعاملات الجارية، معتبرة أن الحكومة ما زالت «تركز على إجراءات قصيرة الأجل على حساب سياسة نقدية فعالة وإصلاح اقتصادي جوهري».
«موديز» قالت: «إن المركز الخارجي لتركيا ومتطلبات الاستدانة وتمديد القروض قد تدهورت، مشيرة إلى تنامي مخاطر تبلور صدمة خارجية بسبب مستويات العجز الكبيرة في ميزان المعاملات الجارية للبلاد، وكل هذه الأمور ترفضها الحكومة التركية وتصفها بغير المنصفه، ولا يعكس واقع الاقتصاد التركي، ولكن من المحق أكثر؟».
في الحقيقة لا يمكن القول إن موديز محقة بشكل كامل، ولا نستطيع كذلك القول بأن الحكومة محقة بشكل كامل، فالاقتصاد التركي يمر بمرحلة حرجة ويواجه الكثير من التحديات الاقتصادية، سواء داخليًا كما ذكرنًا في السطور السابقة، أو خارجيًا وسط منطقة مشتعلة بالصراعات تعيش أنقرة في داخلها، ولكن لا تصل هذه التحديات إلى هذا الوضع السيئ الذي تشير إليه موديز، خاصة أن وكالة «ستاندرد أند بورز» لا ترى وضع الاقتصاد التركي بهذا السوء، رغم أن نظرتها المستقبلية بشأنه سلبية.
وعلى الجانب الآخر لا يمكن القول إن الواقع الاقتصادي بهذه الوردية التي تتحدث عنها الحكومة التركية، فرغم النمو القوي وانتعاش الصادرات والأرقام الإيجابية الخاصة بالاستثمارات وخلافه، يبقى الاقتصاد التركي يعاني كثيرًا من المشاكل الاقتصادية أبرزها نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي، وضغوط التضخم، وهبوط الليرة، وهي المشاكل التي تحتاج ربما إلى تعامل أكثر واقعية، بعيدًا عن الحديث عن الإنجازات التي لا يمكن أن ينكر أحد وجودها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس