سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات
تُعرف تركيا بأنها دولة تلعب فيها المؤسسة العسكرية تقليدياً دوراً بارزاً في الحياة السياسية، وأنها عانت من عدة انقلابات عسكرية بما فيها المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016. فالمؤسسة العسكرية التي خاضت حرب الاستقلال وتعتبر تقليدياً مؤسِّسة الجمهورية التركية الحديثة قد وضعت نفسها دائماً وصية على الجمهورية ومبادئها ومصالحها وديمومتها، ما دفعها للتدخل مرات عديدة في الحياة السياسية، على شكل انقلابات عسكرية فجة أو ضغوط على الحكومات أو تخطيط للانقلاب.لكن فشل المحاولة الانقلابية الأخيرة في صيف 2016 وما تبعه من مكافحة للكيان الموازي المتهم بالوقوف خلفها وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والتحول للنظام الرئاسي دفعت إلى تقييمات إيجابية تفيد بتجاوز تركيا خطر الانقلابات العسكرية ورسوخ التجربة الديمقراطية التركية.
تبحث هذه الورقة في احتمالات حدوث انقلاب عسكري سادس في المستقبل في تركيا، من خلال تحليل الاختلافات الرئيسة للانقلاب الأخير عن سابقيه وتأثير فشله، فضلاً عن العوائق الرئيسة أمام هكذا احتمال، والمخاطر التي قد تزيد من فرصه. وتخلص الورقة إلى أن حصول انقلاب عسكري في تركيا بات أمراً صعباً جداً لكنه ليس مستحيلاً أبداً، بل تبقى فرصه – الضئيلة – قائمة.
الانقلابات الأربعة
شهدت الجمهورية التركية منذ تأسيسها عدة تدخلات للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، بما في ذلك محاولات وخطط عديدة لإسقاط الحكومات المنتخبة، لكن معظمها إما لم ينفذ وتم التراجع عنه أو كشف قبل تنفيذه أو باء بالفشل لدى التنفيذ. إلا أن البلاد شهدت خمسة انقلابات عسكرية واضحة، أربعة منها قبل حكم العدالة والتنمية والأخير فقط خلاله، هي انقلابات أعوام 1960، 1971، 1980، 1997 و2016.
انقلاب عام 1960 كان الأول الذي عرفته تركيا في تاريخها، وقد نفذه 37 ضابطاً متدنيي الرتب وليس قيادة الجيش، واستلموا الحكم تحت اسم “لجنة الوحدة الوطنية” التي قادها الجنرال المتقاعد جمال غورسال.
كانت ذريعة الانقلاب أن حكومات الحزب الديمقراطي التي قادت تركيا منذ 1950 قد أخذت البلاد إلى نظام قمعي وتسببت باضطرابات داخلية واتخذت قرارات “تنتهك علمانية الدولة”. في حين أشارت بعض المصادر إلى عامل خارجي، تمثل بدور لوكالة الاستخبارات الأمريكية في الانقلاب، بسبب نسج مندريس علاقات مع الاتحاد السوفياتي السابق بهدف الحصول على تمويل لبعض الصناعات بعد تراجع التمويل الأمريكي.
ألغت لجنة الوحدة الوطنية” الدستور وحلت البرلمان وجمدت العمل السياسي في البلاد، وعرفت السجون حالات تعذيب ووفيات، وحوكم المعتقلون على ذمة 19 قضية بلائحة اتهامات ضمت الخيانة العظمى وسوء استخدام المال العام. وقد أعدم مندريس ووزيران آخران، بينما تحولت أحكام الإعدام الأخرى إلى السجن بعد ضغوطات خارجية.
على العكس من ذلك، كان انقلاب عام 1971 قراراً من قيادة الجيش التي أرسلت مذكرة للرئيس جودت صوناي موقعة من رئيس الأركان ورؤساء القوات البرية والجوية والبحرية والدرك بتاريخ 12 آذار/مارس مطالبة باستقالة الحكومة، ومتذرعة بالأوضاع الأمنية التي شملت مظاهرات للحركات العمالية اليسارية ومواجهات بين اليمين واليسار في الجامعات.
قبل هذه المذكرة، كان هناك تخطيط لانقلاب عسكري من قبل بعض الضباط بقيادة الفريق جمال مادان أوغلو في 9 آذار/مارس، لكنه أفشل من قبل قيادة الجيش. في الثاني عشر من آذار/مارس 1971، قال بيان للقوات المسلحة التركية أذيع عبر إذاعة مؤسسة الراديو والتلفزيون التركية (TRT) بأن “الحكومة والبرلمان قد دفعا البلاد بآرائهما وسياساتهما إلى حالة من الفوضى والاقتتال الداخلي والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية”، مؤكداً على ضرورة “تشكيل حكومة قوية ومقنِعة تطبق قوانين وإصلاحات أتاتوركية الطابع… وإلا فإن القوات المسلحة التركية مستعدة لأن تأخذ على عاتقها مسؤولية حماية الجمهورية التركية وفق الصلاحيات التي تمنحها إياها القوانين”. وقد قدمت الحكومة بعد هذا البيان استقالتها، وتشكلت حكومة تكنوقراط بقيادة النائب نهاد أريم أدارت البلاد حتى انتخابات عام 1973.
انقلاب عام 1980 أيضاً نفذته قيادة القوات المسلحة التركية بذرائع مثل عدم الاستقرار السياسي وانتشار الاغتيالات السياسية والأزمات الاقتصادية والأحداث الأمنية، مثل بعض الاغتيالات التي طالت سياسيين وإعلاميين ورجال أمن بمن فيهم رئيس الوزراء الأسبق نهاد أريم، واعتداءات على العلويين في كهرمان مرعش في نهاية 1978 قتل فيها 105 أشخاص، و”مظاهرة تحرير القدس” التي نظمها حزب الخلاص الوطني في 6/9/1980 إثر إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وهي المظاهرة التي اعتبرها الانقلابيون محاولة لفرض الشريعة الإسلامية.
من جهة أخرى، هناك تطورات تشير إلى دور أمريكي محتمل في هذا الانقلاب تشجيعاً و/أو دعماً، حيث شهد العام الذي سبقه قيام الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفياتي لأفغانستان، ما زاد من أهمية تركيا ودورها إلى جانب واشنطن بشكل مستقر وقوي، فضلاً عن السياسات التي اتبعتها والقوانين التي سنتها المجموعة الانقلابية ومنها تجريم انتقاد الولايات المتحدة.
أقيلت الحكومة وألغي البرلمان وأغلقت الجمعيات وعلق العمل بالدستور واعتقل قادة الأحزاب السياسية، وكان من نتائج الانقلاب توقيف 650 ألف مواطن، ومحاكمة 230 ألفاً، والحكم على 517 منهم بالإعدام أعدم منهم فعلاً 50، وطرد 30 ألفاً من أعمالهم، وسحب الجنسية من 14 ألفاً، وموت 300 شخص في ظروف غامضة و171 تحت التعذيب.
فاز حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان بالمركز الأول في انتخابات 1995 البرلمانية، وشكل مع حزب الطريق القويم بقيادة تشيلر حكومة ائتلافية في تموز/يوليو 1996. لاقت زيارات أربكان الأولى إلى كل من مصر وليبيا ونيجيريا وبعض قراراته وتصريحاته انتقادات واسعة من الأوساط العلمانية في البلاد تحت ذريعة الخوف من “الرجعية” او “الأصولية”.
في الثامن والعشرين من شباط/فبراير 1997، تضمن البيان الختامي لاجتماع مجلس الأمن القومي: تأكيداً على أن العلمانية هي ضمانة الديمقراطية والقانون، وضرورة تطبيق قوانينها، والرقابة على المدارس التابعة للجماعات الصوفية/الدينية ونقل تبعيتها لوزارة التعليم، والرقابة على معاهد تحفيظ القرآن الكريم، وحظر وإغلاق الجماعات والطرق الصوفية، والسيطرة على الإعلام الذي يدافع عن المطرودين من الجيش بسبب “الرجعية” ويظهر الجيش وكأنه عدو للدين، وتطبيق قانون الزِّي.
في 21 أيار/مايو 1997، أطلق المدعي العام الجمهوري دعوى لحظر حزب الرفاه باعتباره “يقود البلاد نحو حرب أهلية”، ومع تزايد الضغوط قدم أربكان في 18 حزيران/يونيو استقالة حكومته، فيما وصف لاحقاً بأنه انقلاب أبيض أو ما بعد حداثي أرِّخَ له بتاريخ اجتماع مجلس الأمن القومي.
الانقلاب الفاشل
مع العدالة والتنمية تحقق لتركيا من خلال حكم الحزب الواحد والحكومات المتجانسة استقرار سياسي وإنجازات اقتصادية ومشروعات تنموية انعكست على المؤشرات الاقتصادية والسياسة الخارجية والمكانة الدولية لتركيا، لكن ذلك لم ينه محاولات المؤسسة العسكرية للتدخل في الحياة السياسية.
في 2007، وبعد ترشيح حزب العدالة والتنمية لعبدالله غل لرئاسة الجمهورية وبالتوازي مع مظاهرات قادها حزب الشعب الجمهوري المعارض تحت اسم “مظاهرات الجمهورية”، نشرت رئاسة أركان الجيش التركي في 27 نيسان/أبريل 2007 بياناً على موقعها على الانترنت، سمي بالمذكرة الإلكترونية، قالت فيه إن العلمانية باتت موضوع جدل كبير في البلاد مؤكدة أنها “ترى نفسها طرفاً في هذا الجدل، والحامي الأكيد للعلمانية” وهددت بأنها “ستعلن موقفها وإجراءاتها بشكل واضح حين تدعو الضرورة”، الأمر الذي اعتبر تهديداً بانقلاب عسكري وسمي بـ”الانقلاب القضائي”.
وعلى مدى السنوات التي تلت ذلك، رفعت عدة قضايا ضد قيادات عسكرية كانت تخطط لانقلابات عسكرية مثل قضايا أرغنكون والمطرقة وغيرهما فضلاً عن محاكمة المسؤولين عن انقلابي 1980 و 1997. وقد صدرت أحكام على رتب عسكرية عليا من ضمنها رئيس الأركان الأسبق إلكر باشبوغ الذي حكم بالسجن المؤبد )قبل أن يخرج من السجن بسبب ما اعتبرت أدلة ملفقة من قبل جماعة كولن في هذه القضايا، وهي محاكمات ساهمت في إزالة هالة القداسة عن المؤسسة العسكرية وقوَّت موقف المؤسسات المدنية إزاءها.
في الخامس عشر من تموز/يوليو 2016، أفشلت تركيا انقلاباً عسكرياً قامت به جماعة كولن أو التنظيم الموازي داخل المؤسسة العسكرية. والذي يبدو أنه كان مرتبكاً وغير منظم بسبب تبكيره عن موعده أولاً تخوفاً من إخراج عدد كبير من الضباط المنسوبين إليه في اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى في آب/أغسطس، وثانياً بسبب انكشاف جزء من الخطة وفق ما اتضح لاحقاً.
يختلف انقلاب 2016 عن سابقيه بشكل جذري من عدة زوايا:
فالجهة التي قامت به ليست التيار الكمالي أو القومي داخل المؤسسة العسكرية ولا قيادة الجيش وإنما الكيان الموازي أو قيادة جماعة الخدمة/كولن، وثانياً، كان الانقلاب عنيفاً ودموياً بما لا يقارن مع سابقيه، حيث سقط 250 شهيداً ومئات الجرحى على يد الانقلابيين، فضلاً عن استهداف رئيس الجمهورية وقصف القصر الرئاسي ومبنى البرلمان ورئاسة أركان القوات المسلحة، وثالثاً، كانت المرة الأولى التي يتحدى فيه الشعب وقيادته السياسية الانقلاب ويواجهونه في الشارع، كأفراد وقيادات ومنتسبي الشرطة والمخابرات تحديداً، ورابعاً، كنتيجة، فشله بعد ساعات قليلة بينما نجح سابقوه الأربعة.
أهم العوامل التي ساهمت في فشل المحاولة الانقلابية: ارتباكها وتبكيرها وتوقيتها غير المناسب الذي أفقدها عنصر المفاجأة، وعدم موافقة قيادة المؤسسة العسكرية للانخراط في الانقلاب وانقسامها، وقيادة اردوغان للحكومة والجماهير التي برزت خلال تلك الليلة، والحشد الجماهيري في الشارع والذي واجه بشكل مباشر قوات الانقلاب، ومقاومة أفراد الشرطة والاستخبارات وبعض أفراد الجيش للانقلابيين، الإجماع السياسي والحزبي في البلاد على رفض الانقلاب وإسقاط الحكومة بالقوة.
ردات الفعل هذه كانت مختلفة تماماً عن الانقلابات السابقة التي لم يكن فيها موقف حزبي أو شعبي رافض فضلاً عن أن يكون مقاوماً للانقلاب. هذه الصورة والتداعيات اللاحقة على الانقلاب الفاشل، بما فيها مكافحة التنظيم الموازي وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وإقرار النظام الرئاسي، دفعت للاعتقاد بأن تركيا قد أغلقت باب الانقلابات تماماً وإلى غير رجعة.
عوائق ومخاطر
تمثل أمام أي محاولة انقلابية مستقبلية في تركيا عقبات خمس رئيسة تحيل إلى صعوبة الإقدام عليه فضلاً عن نجاحه، وهي:
الأولى، غياب الذريعة:
كانت الانقلابات العسكرية السابقة تتذرع بالانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية والانقسام المجتمعي الحاد والأحداث الأمنية الخطيرة (وأحياناً كانت تفتعل بعضها) وتقدم نفسها كحامية للبلاد من الانهيار و/أو الحرب الأهلية. في ظل الاستقرار السياسي وخاصة بعد إقرار النظام الرئاسي والاقتصاد القوي رغم بعض الهزات يمكن القول إن أي انقلاب عسكري في الظروف الحالية أو المشابهة يفتقد للذريعة الرئيسية.
الثانية، الكلفة الباهظة:
الوعي الشعبي المتنامي بمخاطر الانقلابات وضرورة مواجهتها لحماية التجربة الديمقراطية والمشاركة الشعبية الواسعة في صد المحاولة الانقلابية الأخيرة رغم الكلفة البشرية الكبيرة نسبياً تشير إلى أن أي انقلاب قادم سيواجه كذلك في الشارع حتى ولو امتلك عناصر قوة أكثر وكان أكثر تنظيماً وسيطرة وأقرب للنجاح، وهو ما يعني أن الخسائر البشرية ستكون مرتفعة جداً مقارنة بانقلاب 2016، ما يدفع أي طرف لإعادة النظر مرات ومرات قبل الإقدام على أي انقلاب.
الثالثة، إصلاح المؤسسة العسكرية:
على مدى عشرات السنين كان الدستور التركي ينيط بالمؤسسة العسكرية مسؤولية “حماية الأراضي التركية والجمهورية التركية” وفق المادة 35 منه، وهي المادة التي كانت ذريعة الجيش للتدخل لحماية “مبادئ الجمهورية”. وكان مجلس الأمن القومي أداة المؤسسة العسكرية للضغط على الحكومات بقرارات ملزمة، بينما كانت اجتماعات مجلس الشورى العسكري الأعلى فرصة لـ”تطهير” الجيش من الإسلاميين والمخالفين.
في 2013، عدل البرلمان التركي المادة 35 من الدستور لتصبح مهمة المؤسسة العسكرية حماية البلاد من الأخطار والتهديدات الخارجية حصراً. كما عدلت تشكيلة مجلس الأمن القومي على مراحل لتصبح أغلبيته من الوزراء المدنيين بما في ذلك سكرتيره العام، وتصبح قراراته استشارية غير ملزمة للحكومة.
وفي تعديل أخير، أضيف لبنية مجلس الشورى العسكري الأعلى نوّاب الرئيس ووزيرا المالية والتعليم، رغم أنه يعنى أساساً بعمليات الترقيات في المؤسسة العسكرية، لتنعكس الآية ويصبح تأثير الحكومة على المؤسسة العسكرية واضحاً. كما أن عملية “تطهير” المؤسسة العسكرية من التنظيم الموازي ساعدت على إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية أكثر.
الرابعة، السيطرة المدنية:
أن المحاولة الانقلابية الفاشلة قد أحرجت المؤسسة العسكرية وساهمت في تراجع ثقة الشارع بها، ما جعلها أضعف مقابل الرئاسة والحكومة. الأغلبية المدنية لمجلس الأمن القومي والحضور المدني في مجلس الشورى العسكري الأعلى ساهما أيضاً في تقوية سيطرة الحكومة على المؤسسة العسكرية.
وفي 2018 ألحقت رئاسة أركان الجيش بوزارة الدفاع بعد أن كانت تابعة لرئاسة الوزراء، واختير رئيس الأركان السابق خلوصي أكار كأول وزير دفاع في ظل النظام الرئاسي فيما يمكن اعتباره مرحلة انتقالية لتخفيف حساسية المؤسسة العسكرية، ومن الملاحظ تراجع حضور رئيس الأركان لصالح وزير الدفاع في المناسبات الداخلية والزيارات الخارجية ولقاءات المسؤولين الأتراك والأجانب بعد هذه الخطوة.
الخامسة، ثقافة الجيش:
ثمة جهد مبذول لكن ليس واضح المعالم حتى الآن في تغيير الثقافة السائدة بين الجنود في المؤسسة العسكرية، ويتبدى ذلك في إشارات قريبة لثقافة المواطن التركي القومية – المحافظة وباختلاف واضح عن الثقافة الكمالية النخبوية السائدة سابقاً. ومما يمكن تقديمه كأمثلة هنا مشاهد الصلوات الجماعية داخل المؤسسة العسكرية وافتتاح مسجد باسم وزير الأركان السابق وزير الدفاع الحالي خلوصي أكار.
ولعل في دخول وزير التعليم تحديداً في بنية مجلس الشورى العسكري الأعلى إشارة واضحة على الاهتمام بالمنظومة الفكرية والثقافية داخل المؤسسة العسكرية والعمل على إعادة صياغتها في المرحلة المقبلة.
هذه المعاني وغيرها، وخصوصاً فشل المحاولة الانقلابية الأخيرة، دفعت لتقييمات متفائلة حول تجاوز تركيا خطورة حدوث انقلابات عسكرية في المستقبل.
في المقابل، ورغم كل ما سبق، ما زال هناك بعض السياقات التي تبقي على مخاطر حدوث انقلابات عسكرية في المستقبل في تركيا، وتبقي على جهود منع الانقلابات العسكرية أولوية للسياسات الحكومية، ومنها:
1ـ كون الكيان الموازي تنظيماً سرياً وعمل لعشرات السنين على التغلغل والتمكن داخل مؤسسات الدولة يعني أن القضاء عليه تماماً ليس أمراً سهلاً. ما يؤكد ذلك تصريحات المسؤولين الأتراك التي تدعو لاستمرار مكافحة التنظيم، ومماطلة الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية في التعاون مع السلطات التركية بشأنه ما يوحي باستمرار رهانها على التنظيم، واستمرار احتمالية قيامه بمحاولات أخرى مستقبلاً.
2ـ مع إخراج منتسبي الكيان الموازي من المؤسسة العسكرية، وحيث أن العدالة والتنمية لم يؤسس لنفسه تياراً موالياً له داخلها، فقد اضطر للمفاضلة بين المتنافسين، ما أدى إلى عودة التيارين الكمالي والقومي مرة أخرى لقيادة المؤسسة العسكرية والمواقع المتنفذة بها في اتجاه معاكس لما حصل خلال محاكمات أرغنكون والمطرقة وغيرهما.
3ـ من الصعوبة بمكان تغيير المنظومة الفكرية السائدة في مؤسسة عسكرية عريقة مثل المؤسسة العسكرية التركية والتي سادت لعشرات السنين في مدى لا تتجاوز 16 عاماً من الحكم تخللتها عدة محاولات انقلابية. فليس من السهل تطويع المؤسسة التي تعتبر نفسها مؤسِّسة الجمهورية والمؤتَمَنة عليها والحامية لمبادئها لقيادة الحكومات المنتخبة وقراراتها.
4ـ ترميم صورة المؤسسة العسكرية التركية مرة أخرى بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وخصوصاً مع العمليات العسكرية الناجحة خارج الحدود مثل عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في سوريا وقصف معسكرات العمال الكردستاني في جبال قنديل شمال العراق.
خاتمة
عانت تركيا في تاريخها من عدة انقلابات عسكرية وعدد كبير من المحاولات الانقلابية وتدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية. لكن فشل المحاولة الانقلابية صيف 2016 وما تبع ذلك من تطورات وتداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية واجتماعية تحيل إلى استفادة التجربة الديمقراطية التركية وخروجها أقوى في مواجهة احتمال حدوث انقلاب عسكري في المستقبل.
لكن تاريخ البلاد المرير مع الانقلابات يدعو للحذر من الخلوص لنتائج متسرعة باستحالة حدوث انقلابات عسكرية في المستقبل، خصوصاً وأن البلاد تمر بأوضاع أمنية وسياسية معقدة لا سيما فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والعمليات العسكرية خارج الحدود إضافة إلى الأزمة المالية التي مرت بها في نهايات السنة الفائتة والتي لم تتعاف منها تماماً.
وعليه، فإن الضمانات الرئيسة لصد الباب تماماً ونهائياً أمام أي محاولات انقلابية في المستقبل تكمن في تعميق استقرار النظام السياسي وتخفيف حدة الاستقطاب في الحياة السياسية من جهة، والاستمرار في “تطبيع” المؤسسة العسكرية وتأطيرها ضمن دورها المرسوم دستورياً من جهة أخرى بما ينظم علاقات مدنية – عسكرية متوازنة في البلاد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس