د. علي حسين باكير - عربي 21
نشرت صحيفة "صباح" المقربّة من الحكومة التركية يوم الخميس الماضي تقريراً كشفت فيه بعض التفاصيل المتعلقة بنجاح جهاز الاستخبارات التركي في رصد وتفكيك ٥ خلايا تجسّسية يضم كل منها ٣ عملاء يعملون جميعاً لصالح الموساد الإسرائيلي ويشتغلون بشكل منفصل عن بعضهم البعض. وأشارت الصحيفة إلى أنّ عملية الرصد استغرقت عاماً كاملاً من المراقبة الدقيقة من خلال التكنولوجيا والعنصر البشري، وانتهت بإلقاء القبض على ١٥ عميلاً في ٤ محافظات مختلفة في ٧ تشرين الأول (أكتوبر) الجاري خلال عملية تمويه تم التخطيط لها بعناية بالغة.
ووفقاً للمعلومات المتاحة عن هذه الخلايا، فإنّ الموساد الإسرائيلي نجح في تجنيد عرب للعمل ضمن صفوفه في تركيا، على أن يقوموا بالتركيز على جمع المعلومات حول المواطنين الأتراك والطلاب الأجانب المتميزّين في جامعات تركية مختلفة، لاسيما أولئك الذين من المحتمل أن ينضموا إلى قطاع الصناعات الدفاعية التركي. بعض العاملين في هذه الخلايا كان قد التقى مع مشغّليه الإسرائيليين في سويسرا وكرواتيا، وتلقى أعضاء الخلايا التعليمات من مشغلين إسرائيليين في دول أوروبية وأفريقية أخرى مثل رومانيا وكينيا ونيروبي.
وتأتي هذه العملية بعد أن كانت السلطات التركية قد كشفت بتاريخ ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) الحالي عن عملية استخباراتية أخرى استهدفت شبكة عملاء تعمل لصالح النظام الإيراني وذلك أثناء قيامها باختطافها طيّارا عسكريا إيرانيا ومحاولة تهريبه إلى داخل إيران. وفقاً للمعلومات التي تمّ الإفصاح عنها، فقد تمكّنت السلطات التركية من إحباط هذه العملية بتاريخ ٢٤ أيلول (سبتمبر) الماضي والقبض على ٨ أشخاص بينهم عميلان إيرانيان أحدهما يحمل الجنسية التركية وذلك أثناء قيامها بمحاولة اختطاف وتهريب العسكري السابق عبر ولاية وان شرق تركيا إلى داخل إيران. وبحسب المعلومات، فإنّ السلطات كانت تتابع مسار التخطيط للعملية منذ ٨ أشهر وقد كلّفت حوالي ٣٠ ألف دولار وكانت تهدف إلى دفع امرأة لإعطائه مشروباً مسموماً أثناء حفل عشاء على أن تكون سياّرة مموّهة في انتظاره لتتصرّف وكأنّها تنقله إلى المستشفى، لكن عوضاً عن ذلك، يتم نقله إلى داخل إيران.
اللافت للنظر في هذه العملية أنّ الجانب التركي قام بنشر فيديو للعملية أثناء توقيف السيارة واعتقال العملاء، ويبدو أنّ ذلك يهدف إلى تحقيق أمرين: التأكيد على صدقية المعلومة في ظل الإنكار الرسمي الإيراني المتكرر، والجدّية في ردع أي عمليات مشابهة مستقبلاً. الأمر الآخر الذي يمكن ملاحظته هو اعتماد العملية في جزء منها على العنصر النسائي، وهو تقليد درجت إسرائيل على استخدامه في الماضي.
ليست هذه المرّة الأولى التي يقوم فيها النظام الايراني باتّباع هذا الأسلوب في عملياته الاستخباراتية الخارجية. ففي عملية تمّ تنفيذها في تشرين أول (أكتوبر) ٢٠٢٠، قامت المخابرات الإيرانية باختطاف المعارض الإيراني، حبيب أسيود، الرئيس السابق لحركة النضال العربي لتحرير الأحواز من تركيا إلى داخل إيران. وبعد اعتقال عدد من المتورطين، نقلت صحيفة "واشنطن بوست" في كانون أول (ديسمبر) ٢٠٢٠ عن مسؤول تركي قوله إنّ حبيب جرى استدراجه من السويد إلى تركيا من خلال امرأة تدعى "صابرين. س"، وأنّ أحد مهرّبي المخدرات الإيرانيين شارك في تهريبه بعد اختطافه.
وتذكّر هذه العملية بعملية سابقة جرى تنفيذها في نفس العام واستدرجت الاستخبارات الإيرانية خلالها المعارض البارز روح الله زم من فرنسا إلى العراق، عبر زميلة له، وهناك جرى اختطافه وإعادته إلى إيران حيث تمّ إعدامه.
وكانت الاستخبارات الإيرانية قد اغتالت في ١٤ تشرين ثاني (نوفمبر) من العام ٢٠٢٠، مسعود وردنجاني الذي عمل خبيرا في الأمن السيبراني بوزارة الدفاع الإيرانية، في شوارع إسطنبول بعد عام من لجوئه إلى تركيا. وقد تسببت العملية بتوتر كبير مع إيران بعد أن اعتقلت السلطات التركية عدّة أشخاص لتورطهم فيها من بينهم دبلوماسي إيراني يدعى محمد رضا ناصر زادة. وعندما أنكرت السلطات الإيرانية صحة هذه الأخبار، قامت أنقرة بتسريب فيديو يظهر اعتقال الدبلوماسي أثناء محاولته الخروج من البلاد في شباط (فبراير) ٢٠٢١.
وفي العامين ٢٠١٩ و٢٠٢٠، اعتقلت السلطات التركية أيضاً عدداً من العملاء العرب المقيمين في تركيا بتهمة التخابر مع الإمارات العربية المتحدة بعد أن تمّ رصدهم والكشف عن طبيعة عملهم. ووفقاً للمعلومات التي تمّ تسريبها آنذاك، فقد تضمّنت مهامهم جمع معلومات عن المقيمين العرب في تركيا من بينهم شخصيات سياسية ومعارضين للإمارات وناشطين في صفوف الإخوان المسلمين. وإلى جانب تفكيك خلايا تابعة لهذه الدول، قامت أجهزة الاستخبارات التركية مؤخراً بتفكيك واعتقال أفراد شبكة روسية مؤلفة من روس وأوزبك في أنطاليا وإسطنبول كانت تقوم بعمليات تجسس سياسية وعسكرية وتهدف إلى التحضير لاغتيال معارضين شيشان. وفي نهاية العام ٢٠١٧، قامت أنقرة بتسليم جاسوسين روس إلى موسكو مقابل الموافقة على إطلاق سراح سياسيين من تتار شبه جزيرة القرم كانت روسيا تحتجزهما.
وبسبب طبيعة البلاد المفتوحة، واحتضانها أناسا من مختلف المشارب والتوجهات إلى جانب صعودها الإقليمي السريع على المسرح الإقليمي والدولي، تسعى العديد من أجهزة الإستخبارات الإقليمية والدولية إلى إنشاء موطئ قدم لها داخل تركيا. لكن الملاحظ أنّ معظم هذه الأجهزة تعمل على تجنيد خلايا تابعة لجنسيات أخرى حتى لا تثير الشبهات ولا تتحمّل الخسائر أو التداعيات بشكل مباشر. ويمكن الاستدلال من خلال تسارع وتيرة كشف الخلايا الاستخباراتية التابعة لدول أخرى أنّ جهاز الاستخبارات التركية خصص المزيد من الموارد المالية والبشرية والتقنية بعد عملية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في تشرين الأول (أكتوبر) من العام ٢٠١٨، والتي كانت تهدف إلى تقويض سمعة البلاد.
لكن الكشف عن التفاصيل الدقيقة للعمليّة بيّن أنّ جهاز الإستخبارات التركية يتمتع بقدرات عالية. وإن كان احتمال إفشال كل العمليات بشكل آني غير ممكن، إلاّ أنّ تصدّيه لها والكشف عن التفاصيل الدقيقة المتعلقة بها وردع المزيد من العمليات يشير إلى أنّ تركيا تولي المزيد من الاهتمام إلى جهاز الاستخبارات في ظل تزايد التنافس والصراع الإقليمي والدولي على الأدوار والنفوذ في المنطقة.
وتظهر طبيعة النشاط الاستخباراتي لهذه البلدان تركيزها بشكل أساسي على نشاط المعارضين السياسيين لها والمقيمين داخل تركيا. وبالاستناد إلى المعلومات التي تم الكشف عنها بموازاة إحباط الخلايا التجسّسية لهذه الدول داخل تركيا أنّ أولوياتها متعدّدة ولا تنحصر فقط بمتابعة المعارضين.
بعض الدول كإسرائيل وروسيا يركّز كذلك على العنصر البشري المرتبط بقطاع الصناعات الدفاعية في تركيا والذي يشهد قفزات سريعة ومتقدّمة خلال السنوات القليلة الماضية، والبعض الآخر كالإمارات على سبيل المثال يركّز على نشاط الأفراد المقرّبين أو التابعين لجماعة الإخوان المسلمين. وإن نجحت أنقرة في إفشال عمليات هذه الدول التجسّسية داخل حدودها، إلاّ أنّه ليس من المتوقع أن ينتهي الصراع الاستخباراتي الصامت مع هذه الدول وغيرها في أي وقت قريب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس