علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر
كان هناك رجل أظنه لم يذق طعم النوم طوال الشهر الماضي في تركيا، فأردغان تقع على عاتقه مهمة المرور بسلام بهذا البلد الذي بدأ يتمتع بثقة أطراف متناقضة متعددة في العالم، بعضها بدأ يتوجس خيفة من الدور المتنامي لدولة إلى وقت قريب كانت مجالا واسعا للانقلابات العسكرية، لكنها على مدار عقدين تنامت وصارت لاعبا أساسيا في حركة السياسة العالمية، عندما سألني صاحب المقهى التركي بالأمس القريب وهو يقدم لي الشاي التركي: هل حققت تركيا مكانة عالمية؟ أجبته دون تردد: نعم (إيفيت بالتركية).
لهذا كنت أتصور طوال أكثر من 30 ساعة منذ بدء انتخابات 14 مايو/أيار الجاري حمولة الرجل التي ستكون كلمته فاصلة في حياة تلك الدولة، فاليوم الذي أظنه طال عليه كثيرًا لم يبدأ في صباح يوم التصويت بل قبله بأسابيع أو شهور، فهناك خطاب سياسي مليء بالعنصرية يتبناه طرف في الانتخابات، يتعجل أصحابه فوزًا بالكعكة التركية مدعومون بآلة إعلامية عالمية وتبجح غربي في تأييدهم، استطلاعات الرأي التي أجروها تنبّأت بحصولهم على المنصب الرفيع وأغلبية برلمانية، إنهم يدخلون الانتخابات فقط ليتأكدوا من فوزهم هكذا بدا المشهد لأنصارهم فزادوا من عنصرية الشارع التركي.
أمام هذا الرجل مهمة صعبة فبدا ذلك على وجهه جليًا حينما ظهر لأول مرة قبل منتصف ليلة إعلان النتائج كان الرجل متوترا جدًا من التصريحات المتتالية لقادة تحالف الشعب الذين أكدوا تفوقهم على غير ما تشير الأرقام المعلنة من لجان الفرز أو اللجنة العليا، وفي هذا تأجيج لروح العنصرية المتفشية في الأنحاء.
قد بدأ طرف لا ينتظر نتيجة الانتخابات الصادرة عن الهيئة العليا للانتخابات التي يرأسها ويعلن عن اسم الرئيس الثالث عشر لتركيا، كان توتره واضحًا وكلمته مقتضبة جدًا “لا نتائج إلا ما تعلنه الهيئة” ولم يظهر الرجل مرة ثانية إلا قرب فجر 15 مايو الجاري ليعلن نسبة الصناديق التي تم فرزها ولكنه كان أكثر هدوء وراحة، وبدت على وجهه ابتسامة ثقة، وبعدها مباشرة خرج الرئيس التركي مرشح تحالف الجمهور أمام أنصاره في أنقرة العاصمة ليؤكد ثقته في شعبه وتقبّله أي نتيجة تعلنها اللجنة العليا للانتخابات رغم أن المؤشرات الأولية كانت تشير إلى تفوقه بنسبة مئوية بدأت بأكثر من 12% وانتهت مع إعلان النتيجة بما يقارب 5%، ولكن السياسي الحكيم الذي عاش عقدين من التوتر المستمر يعلن ذلك دعما لوطنه واستقراره.
لا أنكر أنه من أصعب الأيام التي قضيتها في تركيا خلال خمسة أعوام، وأظنه كذلك على معظم الشعب التركي وكذلك الجاليات العربية في تركيا، فقد توترت الأعصاب ولم ينم الأغلبية من الأتراك، كنت بين الحين والآخر أنظر إلى نوافذ المنازل من حولي، صمت عام يحيط بالجميع والعيون مصوّبة نحو الشاشة والأرقام التي تتغير سريعًا، حتى تبدّت أنوار الفجر، وحينها كان معظم أهالي الحي العلماني الذي أقطن فيه قد غلبهم النعاس، أما أنا فقد ظللت حتى العاشرة صباحا وعندها غلبني النعاس.
هو يوم مماثل للخامس عشر من يوليو/تموز 2016، يوم الانقلاب العسكري في تركيا كما وصفه الأصدقاء الذين عايشوه هنا -كنت حينها في مصر- أجواء تنتظر فيها تصرفات السياسيين والقادة، هل ينحازوا لتركيا ومستقبلها كما فعلوها يوم الانقلاب؟ كان تحليلي دائمًا أن الشعب التركي سيكون مع استقرار وطنه وعدم الخوض في الفوضى الخلاقة -لصاحبتها السيدة كونداليزا ريس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة- أما تصرف السياسيين وخاصة الطامعين في منصب نائب الرئيس، أو منصب رئيس الوزراء فقد ساورني شك بسيط خاصة من اندفاع أكرم إمام أوغلو حاكم إسطنبول.
خرج الرجل الحكيم مرة أخرى عصر اليوم التالي للانتخابات ليعلن النتيجة كاملة وقد بدا من ظهيرة هذا اليوم أن هناك تقبلا لما سيعلنه من الجميع، واختفت تصريحات تحالف المعارضة التركية واستمر هذا الاحتفاء ليوم أو أكثر، بعد إعلان رئيس الهيئة العامة للنتيجة، لم يعترض أحد، الجميع ارتضى ما قاله، لا تحفظ، لا كلمات عصبية، لا بلاغات أو طعن على النتيجة، وساد الهدوء أنحاء الشارع التركي تعبيرًا عن ثقة في الهيئة التي تدير الانتخابات ونتائجها المعلنة، لتثبت المعارضة التركية سواء اتفقت أو اختلفت مع ما تطرحه من سياسات أنها على مستوى المسؤولية حفاظا على دولتها وثقتها في مؤسساتها الدستورية، نعم أنها نعمة الممارسة الديمقراطية للشعوب.
أيام قليلة وتبدأ الجولة الثانية في انتخابات الرئاسة التركية، يدخلها الرئيس التركي وهو يحتاج صوتا واحدا فارقا عن منافسه، وكان الرئيس في الجولة الأولى قد سبق مرشح تحالف الشعب بمليونين وثلاثمئة ألف، لكن في الجولة الثانية، الأحد المقبل، يحتاج لدخول ولاية جديدة إلى صوت واحد فارق.
الأصوات التي حصل عليها مرشح تحالف الأجداد سنان أوغلو وبلغت مليونين ونصف المليون صوت محط أنظار طرفي الرهان، فالرجل المجهول الذي لم يكن معروفا صار الحصان الأسود للانتخابات بعد انسحاب مرشح حزب البلد محرم إنجه الذي تعرض لتهديدات وتسريبات غير لائقة، أصبحت الكتلة المصوّتة لسنان أوغلو هي سعي متنافسي الرئاسة، فتحالف الجمهور يرغب في أن يكون انتصاره في جولة الإعادة حاسمًا يؤكد جدارته في العبور بتركيا إلى المئوية الثانية للجمهورية، وتكون حسن الختام لرجل نقل تركيا إلى مكانتها العالمية، أما تحالف الشعب فيراها كتلة تقريبية للفارق بين مرشحها والرئيس التركي في الجولة الأولى، ولذا أطلق الكثير من المراقبين على سنان أوغلو صانع الرؤساء أو الملوك، وانتظر الجميع مفاوضات طرفي المنافسة مع الحصان الأسود القادم من المجهول.
أخيرًا أعلن سنان أوغلو، عصر الاثنين الماضي، دعمه للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في جولة الإعادة، وقال أوغلو”إن مرشح تحالف الشعب لم يقنعه بمشاريعه المستقبلية”، ودعا جمهور ناخبيه إلى التصويت للرئيس التركي دعمًا لمستقبل بلادهم، بينما أعلن رئيس حزب الظفر أوميت أوزداغ أحد أحزاب تحالف الأجداد وهو حزب سنان أوغلو أن المرشح الرئاسي الثالث في الجولة الاولى لا يمثل إلا نفسه.
وبعيدًا عن تصريحات رئيس الحزب أو المرشح الخاسر والذي تعرض لهجوم شرس من كتلة تحالف الشعب المعارض بعد هذا الإعلان حتى إنه اتُّهِم في حبه للوطن، إلا أن كتلة تصويت سنان أوغلو لن تكون كتلة صماء يحركها بسهولة هو أو رئيس حزبه، إنما هي كتلة متحركة قد يصوّت أغلبها لمرشح تحالف الجمهور الرئيس التركي، والعكس قد يصوتوا للتحالف المعارض، ولكنها كتلة مؤثرة لتقليل الفارق بين المتنافسين على الرئاسة، أو لزيادة الفارق إلى أكثر من ذلك للرئيس التركي ليكون تتويجًا لإنجازه الطويل ودورته الرئاسية الأخيرة.
أعتقد أن هناك عاملًا آخر سيكون له تأثيره في انتخابات الأحد القبل هو نسبة التصويت، رغم أن النسبة التي شاركت في الجولة الأولى قاربت 89% وهي تقارب النسبة في انتخابات 2018 إلا أنها المرة الأولى التي ستكون انتخابات رئاسية فقط وهذا بالطبع سيؤثر على نسبة التصويت، وأعتقد أن ليلة التاسع والعشرين من مايو لن تنقضي دون إعلان الرئيس التركي في دورة رئاسية جديدة مفصلية في حياة تركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس