سمير العركي - الجزيرة مباشر
للهزيمة أب واحد، أما الانتصار فله مئة أب، هكذا يقال في الحياة، وهكذا هو الشأن في السياسة أيضا.
فالعمل السياسي له فاتورة يجب أن تُسدَّد بعد الخسارة، وإلا تتعاظم الخسائر، ويتسع الخرق على الراقع، ويفتح الباب على مصراعيه للمجهول!
المعارضة التركية اليوم تعيش نفس الحالة، بعد أن وجدت نفسها ملزمة بالإجابة “العملية” عن السؤال الذي طرحته أثناء الحملة الانتخابية: “ماذا سيفعل أردوغان حال خسارته الانتخابات؟ هل سيترك الحكم أم سيتشبث به؟”.
والآن بعد خسارة الرئاسة والبرلمان ماذا سيفعل قادة أحزاب المعارضة الرئيسية (الشعب الجمهوري والحزب الجيد وحزب الشعوب الديمقراطي)؟
هل سيستمرون في مناصبهم؟ أم يغادرونها طواعية؟
هل سيتم هذا التغيير في هدوء؟ أم سيتحول إلى صراع يخلف صدوعا وانكسارات داخل هذه الأحزاب؟
الصراع بين كليجدارأوغلو وأكرم إمام أوغلو (صراع الأب وابنه).
قبل أسابيع فقط كان كليجدار أوغلو يصف أكرم إمام أوغلو بالابن، لكن الصراع الأبرز الآن في المعارضة يدور داخل حزب الشعب الجمهوري، فأكرم إمام أوغلو الذي فجرمفاجأة عام 2019 بانتزاع رئاسة بلدية إسطنبول من حزب العدالة والتنمية، جهز نفسه من حينها للوصول إلى قصر الرئاسة في أنقرة على اعتبار أن من يحكم إسطنبول يحكم تركيا، لكن المفارقة أن هذه القاعدة لم تصدق مع أحد حتى الآن سوى أردوغان، الذي انتقل من رئاسة بلدية إسطنبول 1994 إلى رئاسة الوزراء 2003 ثم إلى رئاسة الجمهورية منذ أغسطس 2014 وحتى الآن.
لم يهتم إمام أوغلو كثيرا بتطوير أهم وأكبر ولاية في تركيا وحل مشاكلها المتجددة، بل أنفق أموالا طائلة على الدعاية الشخصية، وتقمص الرجل دور رئيس الجمهورية.
لكن آماله تحطمت مع إعلان كليجدار أوغلو الترشح لمنصب الرئاسة، ولم يستطع أن يتمرد على رئيسه، قبل أن تتاح له فرصة الانضمام إلى الحملة الانتخابية باعتباره نائبا محتملا لكليجدار أوغلو في حال نجاحه في الانتخابات.
لكن مع الفشل الذريع الذي مُني به الحزب على المستويين الرئاسي والبرلماني، كان لا بد أن يتفجر الحديث عن ضرورة التغيير، من خلال استقالة كليجدار أوغلو، وصعود أكرم بدلا منه، لذا سرعان ما نشب الصراع بين الرجلين وخرج إلى العلن.
ففي تصريحات صحفية أكد أكرم إمام أوغلو ضرورة التغيير واصفا إياه بأنه الشيء الوحيد الذي لا يتغير.
وكان يمكن لأكرم إمام أوغلو التركيز في عمله رئيسًا لبلدية إسطنبول، ويترشح بعد الانتخابات المحلية المقبلة 2024، لرئاسة الحزب.
الملاحظة المهمة هنا أن المعركة بين الرجلين حملت سمة من سمات المعركة الانتخابية التي شهدتها تركيا مؤخرا، إذ تتباين الأوضاع فيها بين مواقع التواصل الاجتماعي، وبين الواقع الحقيقي.
ففي الفضاء الأزرق، يتفوق أكرم بوضوح؛ إذ يمتلك علاقات قوية مع كثير من الصحفيين الداعمين لحزب الشعب، الذين يمارسون ضغوطا هائلة على كليجدار أوغلو لدفعه إلى الاستقالة، كما أنه يتمتع بحضور ملحوظ وسط شريحة الشباب، لكن على أرض الواقع يتمتع كليجدارأوغلو بالقوة الحقيقية والفعلية للأسباب التالية:
– نشأته وتدرجه في أحضان البيروقراطية التركية حتى ترأس مؤسسة الضمان الاجتماعي SGK، مما أكسبه خبرة كبيرة في العمل المؤسسي وكيفية إدارة الصراعات التنافسية لصالحه.
– كليجدار أوغلو وصل إلى رئاسة الحزب 2010 بعد إزاحة رئيس الحزب السابق دينيز بايكال بفضيحة تسريبات، والجهة التي أوصلته لم تتخل عنه حتى الآن! حيث أكد الصحفي الشهير فاتح ألطايلي أن أحد أصدقائه من داخل حزب الشعب أخبره بأن كليجدار أوغلو مشروع خارجي، ولن يرحل عن رئاسة الحزب لأن مهمته لم تنته بعد.
– ليست هي المرة الأولى التي تحاول فيها أطراف داخلية الإطاحة بكليجدار أوغلو من رئاسة الحزب، فقد فعلها من قبل مصطفى صاري غول الذي ترشح لرئاسة بلدية إسطنبول عام 2014، لكنه فشل في التغيير مما دفعه إلى ترك الحزب وتأسيس حزب جديد أسماه “التغيير” قبل أن يعود مجددا إلى الحزب في هذه الانتخابات، ويحل حزبه الجديد ويعلن دعمه لكليجدار أوغلو، كما حاول ذلك محرم إنجه وهو في أوج قوته عام 2018؛ إذ كان خارجا للتو من الانتخابات الرئاسية حاصلا على 30% متفوقا على نتائج الحزب في الانتخابات البرلمانية بحوالي 8% لكنه فشل أيضا ورحل عن الحزب ليؤسس حزبا جديدا. أي أن كل من حاول إزاحة كليجدار أوغلو رحل هو وبقي الرجل في منصبه أقوى مما كان.
– نجح كليجدار أوغلو في تثبيت رجاله في مفاصل الحزب وأهمها المجلس التنفيذي للحزب MYK الذي أمره بالاستقالة ليعيد تأسيسه على وفق ما يحقق له القوة المطلقة داخل الحزب، ويحرم أكرم من أي دعم من داخلي.
في ضوء التوتر المتصاعد بين كليجدار أوغلو وأكرم إمام أوغلو فإن السيناريوهات المتوقعة كالتالي:
أولا: نجاح كليجدار أوغلو في إبقاء الأمور على ما هي عليه متذرعا بالانتخابات البلدية المقبلة، وفي هذه الحالة فإن مستقبل أكرم داخل الحزب سيبقى على المحك؛ لأن كليجدار أوغلو بوسعه حرمان إمام أوغلو من الترشح مجددا لرئاسة البلدية، أو السماح له بالترشح لكن دون تقديم الدعم اللازم له خاصة مع تراجع شعبية أكرم داخل إسطنبول لفشله في إداراتها؛ مما قد يعرضه لهزيمة أمام مرشح حزب العدالة والتنمية، الأمر الذي سيخصم كثيرا من قوته ولن يكون هناك ثمة تفاضل بينهما فكلاهما في الهزيمة سواء.
ثانيا: اتجاه أكرم إمام أوغلو لتفجير الأوضاع داخل الحزب وإحداث انقسامات فعلية في بنيته، لكن في تقديري فإن هذا السيناريو مستبعد، نظرا إلى ضعف مركز أكرم داخل الحزب وعدم توفر لوبي قوي يدعمه في مواجهة أنصار كليجدار أوغلو الذين يسيطرون على المراكز القيادية داخل الحزب. كما أنه يواجه حكما قضائيا أوليا بالسجن للتطاول على الهيئة العليا للانتخابات، إضافة إلى قضية أخرى يستعد للمثول فيها أمام القضاء بتهم تتعلق بالتلاعب في العطاءات والمناقصات الخاصة بمشاريع البلدية.
ثالثا: استقالة أكرم من الحزب والاتجاه صوب تأسيس حزب جديد، ومع عدم استبعاد هذا السيناريو فإنه ضعيف، ومن الصعب أن يلجأ إليه إمام أوغلو قبل الانتخابات البلدية التي لا يمكنه خوضها مستقلا بعيدا عن الدعم الشعبي والمادي لحزب الشعب الجمهوري وما يتمتع به من تحالفات مؤثرة ومهمة.
لكن ثمة صراع آخر داخل الحزب لا يزال كامنا ينتظر دوره.
من الصعوبة بمكان ألا تحلم امرأة مثل جنان كفتانجي أوغلو برئاسة الحزب، فهي تتولى الآن رئاسة الحزب في إسطنبول، ونجحت في دعم أكرم إمام أوغلو في معركة الانتخابات البلدية حتى أوصلته إلى رئاسة البلدية، كما أنها تتمتع بشخصية قوية ومؤثرة ومسيطرة.
معروف عن جنان عداؤها الواضح والصريح للإسلام وشرائعه حتى إنه صدر عليها حكم قضائي أولي لتصريحاتها التي اعتبرتها المحكمة إساءة إلى مقدسات المسلمين.
نقطة ضعف كفتانجي أوغلو -كما هي حال أكرم أيضا- أنها ليست أتاتوركية خالصة، بل وفدت إلى الحزب من حركة التحرير الشعبية الثورية، وهي حركة محظورة تنتمي إلى اليسار المتطرف.
أثارت جنان جدلا واسعا داخل الحزب قبل نحو عامين عندما تحدثت عن كمال أتاتورك حديثا اعتبر الكماليون أنه خال من الاحترام اللائق بمؤسس الجمهورية التركية، وطالبوا كليجدار أوغلو بالتدخل ضدها، لكن الرجل لم يستطع اتخاذ أي إجراء في حقها.
حتى الآن لم تتخذ جنان أي موقف واضح إزاء التغيير داخل الحزب، هل ستدعم أحد الرجلين، أم تتخذ موقفا يخدم مصلحتها الشخصية لنيل رئاسة الحزب لنفسها وليس لصالح طرف آخر؟ فقد أدت هذه المرأة دورا حقيقيا في فوز أكرم العريض برئاسة بلدية إسطنبول؛ لذا تبقى كفتانجي أوغلو رقما مهما وصعبا داخل الحزب إذا ما قررت أن تتحرك، إضافة إلى أسماء أخرى إذا قررت أن تتحرك أيضا للوثوب على رئاسة الحزب أبرزها أوزغور أوزيل نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، الذي صرح مؤخرا بأنه يمكنه التقدم لتحمل المسؤولية داخل الحزب.
خسائر الحزب الجيد بدأت في وقت مبكر، وتحديدا عندما قررت ميرال أكشينار العودة إلى الطاولة بعد أن غادرتها غاضبة إثر اتفاق بقية زعماء التحالف على اختيار كليجدارأوغلو مرشحًا توافقيًّا.
كان قرار العودة بمثابة انتحار سيتعين عليها أن تدفع ثمنه من مستقبلها السياسي، وكتبت عنه في حينه وقالت إنها خسرت.
هذه الخسارة انعكست على أدائها أثناء الحملة الانتخابية فكانت الأشد عصبية وتوترا من دون داعٍ، كانت تشعر بالقهر من حملها على سلوك مسار يتعارض مع اقتناعها لكنها بدلا من أن تفرغ غضبها اتجاه المتسبب كانت تفرغه صوب أردوغان!!
أداء ميرال السيّئ انعكس على تماسك الحزب فتوالت الاستقالات ذات العيار الثقيل المؤثر أمثال يافوز آغر علي أوغلو وآيطون تشراي، وآخرهم آهاد أنديجان أحد المؤسسين، وقد قال في استقالته: “للأسف لم يعد بالإمكان العمل بانسجام مع إدارة الحزب”.
لذا فالآمال معلقة داخل الحزب على المؤتمر العام المقرر هذا الشهر الذي من المنتظر أن يشهد رحيل ميرال عن رئاسة الحزب واختيار قيادة بديلة ليسدل الستار على مشوارها السياسي من دون أن تحقق ما كانت تريد، فالمرأة خاضت انتخابات عام 2018 الرئاسية مصحوبة بصخب إعلامي مبالغ فيها نكاية بأردوغان، حيث وصفت في الإعلام الغربي بأنها امرأة حديدية، لكن تمخضت الانتخابات حينها عن هزيمة مذلّة بنسبة حوالي 7%، لتعود في هذه الانتخابات وتنصّب نفسها رئيسة للوزراء! من دون أن تنتظر فوز كليجدارأوغلو، ثم إعادة النظام البرلماني باستفتاء جديد، لكنها قفزت على كل ذلك، ومع خسارة كليجدارأوغلو، وفوز تحالف الجمهور بأغلبية البرلمان انقطع أملها تماما في حلمها الذي روجت له، ولم يعد أمامها سوى الرحيل في أقرب وقت.
تلقى حزب الشعوب الديمقراطي -الذي خاض الانتخابات تحت اسم حزب اليسار الأخضر- صدمة حقيقية بعد تراجع نتائجه من 11.7% (67 مقعدا) عام 2018 إلى 8.8% (61 مقعدا) في هذه الانتخابات. وهي خسارة لم يتوقعها الحزب فتهديدات قادته ووعودهم المفرطة، كانت تعكس اطمئنانا بفوز مريح لا يقل عن 15%!!
تراجع النتائج دفع الرئيس المشارك السابق للحزب صلاح الدين ديميرطاش المسجون حاليا بتهمة الدعوة إلى أعمال عنف تسببت في مقتل 51 مواطنا، إلى إعلان استقالته في المرحلة الحالية، متهمًا قادة الحزب بعدم الإصغاء إلى نصائحه ومطالبه، ومنها ترشيحه للرئاسة من داخل محبسه كما فعل في 2018، وقال إنهم اهتموا بالشعارات على حساب البرامج الحقيقية المقدمة للشعب.
أزمة الحزب عميقة، وفي تقديري أنه لن يستطيع تجاوزها حتى مع إعلان الرئيسين المتشاركين للحزب مدحت سنجار وبيرفين بولدان عدم الترشح مجددا لمنصبي الرئاسة، فالحزب مرتهن بالكامل لتنظيم PKK الإرهابي، وقادة التنظيم في جبال قنديل بشمال العراق، هم المحركون الحقيقيون للحزب، ولا يمكن لقادة الحزب داخل تركيا مخالفة أوامرهم، وهو ما حرم الحزب من بناء قاعدة جماهيرية تتجاوز المكون الكردي. ومع صعود حزب هدا بار الإسلامي الكردي بقوة في هذه الانتخابات، تعاظمت التحديات التي يواجهها حزب الشعوب داخل محيطه الكردي.
الإصلاح الداخلي في حزب الشعوب غير ممكن لأنه حزب وظيفي، يعمل لصالح أجندة أكبر منه، تتحكم فيها قوى إقليمية وعالمية عبر تنظيم PKK؛ لذا فسيعاني الحزب من مزيد من التصدعات والتآكل والتقوقع ولا ينتظر له أي انطلاق جديد مختلف.
وهكذا فإن أحزاب المعارضة التركية التي شغلت نفسها قبل أسابيع بالحديث عن مستقبل أردوغان وتحالف الجمهور عقب الخسارة “المتوهمة” عليها أن تسدد الآن فاتورة الخسارة “الحقيقية”، وهي فاتورة باهظة التكاليف السياسية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس