د. علي محمد الصَّلابي - خاص ترك برس

بنى القائد الإسلامي الكبير صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) دولته على أساس القوة الروحية والإيمانية، والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وكانت نواة قوة هذه الدولة الناشئة في ظل مخاطر وتحديات العدو الصليبي هي القوة الحربية، والتي اعتمد فيها صلاح الدين على إستراتيجية خاصة في القتال، والتعامل الأمني والعسكري بحزم وعزيمة في مواجهة العدو، وتحرير الأراضي الإسلامية منه.

أولاً: إدارة شؤون القتال والسِّلم والأسرى

1 ـ مجلس حرب جيش صلاح الدين: كان من الطبيعي أن يكون لصلاح الدين مساعدون، يعينونه على توجيه سياسة الحرب، ووضع الخطط العسكرية، وإدارة شؤون الدولة، وكان هؤلاء يشكِّلون مجلساً شبيهاً بما يطلق عليه أركان الجيش، وكان المجلس يجتمع كلَّما رأى صلاح الدين ضرورة في ذلك.

2 ـ خطط وأساليب القتال: كان الهدف الأسمى للجيش الأيوبي في قتاله هو طرد المحتلَّين الصليبيين؛ الذين استقرُّوا في الساحل الشامي الممتدِّ من أقصى الشمال من أنطاكيا إلى أقصى الجنوب في عسقلان، وكذلك في بعض الأجزاء الدَّاخلية، مثل: بيت المقدس، والكرك، والرُّها، وطبرية، وغيرها، فالهدف الإستراتيجي في القتال الأيوبي هو استعادة الأراضي التي يحتلُّها الصَّليبيُّون منذ أواخر القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف سلكت الجيوش الإسلامية مختلف السبل، وشتَّى الأساليب سواء عن طريق المجابهة المباشرة مع العدوِّ، أو عن طريق إضعافه اقتصادياً، ومعنوياً، وحصره في نقاط الارتكاز التي حصَّنها، فالمسلمون ـ لاسيما في عصر صلاح الدين ـ اتَّبعوا مختلف التكتيكات للإيقاع بالصَّليبيين، ولم تكن الخطط العسكرية في الجيش الأيوبي يصنعها صلاح الدين وحده، بل كان يعينه مجلسه الاستشاري؛ على الرَّغم من أنَّ قيادة الجيش المركزية ظلَّت بيد صلاح الدين، والنَّجاح يكون في الغالب مضموناً إذا حافظ القائد على الاتصال الدائم بالأعداء، وقد تحلُّ الهزائم به إذا فقد ذلك الاتصال.

3 ـ قطع الأشجار: من الأعمال التي قصد منها إضعاف العدو: أنه أوعز إلى جنده بقطع كروم ضياع صفد في غور الأردن في موقعه بيت الأحزان؛ التي حدثت سنة 575هـ/1179م، وأمر بحصد غلاَّتهم، وقصد من هذا تحطيم اقتصاد العدوِّ، وجعله لا يستفيد من الكروم، وأخشابها، ومن الحبوب التي حصدها الجند، وقد تكرَّر هذا العمل في مناسباتٍ عديدة.( الروضتين، أبي شامة المقدسي، ص208). 

4 ـ قطع المياه: كان لتكتيك قطع الماء أثره العميق في إضعاف العدوِّ، وهزيمته. فالمعروف: أنَّ سيطرة الجيش الأيوبي على منابع الماء يوم حطِّين كان أحد أسباب هزيمة العدو، كما هو معلوم، حين، حجز بينهم وبين الماء؛ حتى قتلهم العطش، ولجأ الجيش الأيوبي إلى إفساد مياه بعض ينابيع القدس سنة 587 هـ/1191 م للحيلولة دون وقوع هذه المدينة بأيدي الصليبيين بعد هزيمة المسلمين المعروفة في عكَّا، وكان إفساد الماء يتمُّ عن طريق إلقاء الزَّرنيخ، أو طرح الجيف فيه.

5 ـ أسلوب الحرب الخاطفة: من الخطط التي اتَّبعها تطبيقه لأسلوب الحرب الخاطفة، ومباغتة العدو، والانتصار عليه قبل أن يستطيع تجميع قواه. وهذه الخطَّة تظهر معالمها بوضوح أكثر في سنتي 583هـ  584هـ/1187 ـ 1188م حين لم يكتف بالانتصار الحاسم في حطين، بل إنه أتبع الانتصار بانتصاراتٍ لاحقةٍ سريعةٍ بحيث يمنع الصليبيين من التَّجمُّع في مكانٍ واحدٍ، والاشتباك معه في موقعه مكشوفةٍ أخرى.

6 ـ خطة القتال بالتناوب: أعاد صلاح الدين الكرَّة على صور، وعند أسوارها طبَّق خطَّةً نفذها بنجاح في فتح بعض القلاع، مثل: برزية، وهي خطة القتال بالتناوب، وذلك بأن قسم عسكره إلى ثلاثة أقسام، يقاتل كلُّ قسم منها فترةً محدَّدة، ثم يستريح ليواصل القتال قسمٌ ثانٍ، ثم ثالث. وقد قصد باتِّباعه لهذا الأسلوب إنهاك الصَّليبيين، وعدم فسح المجال لهم ليرتاحوا؛ إلا أنَّ الأسلوب اصطدم بمتانة أسوار صور؛ إضافةً إلى وضع المدينة الطوبوغرافي.

7 ـ خطة شقِّ صفوف الصَّليبيين: اتَّبع صلاح الدين خطَّة شقِّ صفوف الصَّليبيين، والإيقاع بينهم، وكسب ودِّ بعض قادتهم في محاولةٍ منه لإضعافهم.

8 ـ توطيد علاقته الاقتصادية التجارية مع المدن الإيطالية: ومن الاجراءات الحكيمة؛ التي لجأ إليها صلاح الدين بصدد إضعاف العدوِّ اقتصادياً قيامه بتوطيد علاقته الاقتصادية التجارية مع دويلات المدن الإيطالية، مثل: (بيزا، وجنوا، والبندقية) فمنذ أن تولَّى الحكم في مصر صار يبذل الجهود لجذب تجارة هذه المدن إلى مصر، وراح يعقد الاتفاقات مع هذه الدويلات لتبادل السُّفراء معها، وقد انتفع صلاح الدين من هذه الاتفاقيات من ناحيتين:

ـ ازدياد موارد دولته بسبب النشاط التجاري، فحصل على حاجته من الحديد، والخشب، والشَّمع.

ـ إضعاف تجارة الصَّليبيين؛ لاسيما إذا عرفنا: أنَّ صلاح الدين كان يسيطر على البحر الأحمر، ولا شكَّ أنَّ هذه التجارة أدت إلى الاهتمام بإعادة بناء الأسطول الإسلامي الأيوبي.(الجيش الأيوبي،محسن حسين،ص211).

9 ـ تخريب المدن: ممَّا يُذكر بصدد خطط صلاح الدين الحربية هو أنه لجأ في سنوات صراعه الأخيرة مع الصليبيين ـ الذين كان يقودهم ريتشارد قلب الأسد ـ إلى تخريب مدينة عسقلان؛ التي كانت المفتاح الجنوبي لبيت المقدس، وطريق القوافل الذاهبة إلى مصر، وكان المسلمون يطلقون عليها عروس الشام لحسنها، ولجأ السُّلطان إلى هذا الإجراء حين عجز جيشه عن الدِّفاع عنها، وخشي أن يستولي عليها الصَّليبيون، وهي عامرةٌ ـ كما حصل لعكَّا ـ فيقطعوا بها طريق مصر، فاعمد إلى إشرافها، وحصنها. وهكذا تقرَّر تخريب عسقلان، والواقع: أنَّ هذه المدينة لم تكن الوحيدة التي تعرَّضت لهذا المصير.

10 ـ تأمين الطريق الواصل بين مصر والشام: وممَّا يدخل ضمن خطط صلاح الدين الاستراتيجية تأمينه للطريق الموصل بين مصر والشام, والذي تبلغ المسافة بينهما مسيرة حوالي ثلاثين يوماً، وشيَّد صلاح الدين القلاع، والمنازل، وأقام الحراسة على طول الطريق بين مصر والشام، فأعاد الأمن، والسلام إلى سيناء وقد اعتاد صلاح الدين، وقوَّاده أن يسلكوا هذا الطريق في غدواتهم، وروحاتهم إلى الشام.

11 ـ تحصين المدن والثغور: اهتمَّ بتحصين مدينتي الإسكندرية، والقاهرة، وثغور الدِّيار المصرية، ومداخلها، وأهمُّها في عهد صلاح الدين: الإسكندرية، ودمياط، ورشيد، وعيذاب، ونيس، وأدرك صلاح الدين مدى الخطر الذي قد لحق بمصر من ناحية الشَّمال من جانب الصليبيين، فكان حريصاً على التحصين، وكذلك اهتمَّ بتحصين سواحل البحر الأحمر، وأمَّا داخل مصر فأهم التحصينات التي أقامها كانت في مدينة القاهرة، فقد شرع السُّلطان في عمارة سور القاهرة، لأنَّه كان قد تهدَّم أكثره، وصار طريقاً لا يردُّ داخلاً، ولا خارجاً، وولاَّه لقراقوش الخادم.

12 ـ موسم القتال: كانت الاستعدادات للقتال تبدأ بانتهاء موسم الشتاء، وارتفاع درجات الحرارة مع قدوم الرَّبيع، أمَّا ما كان يجري في الشتاء بين الجانبين؛ فلم يكن يتعدَّى المناوشات القصيرة، ووضع الكمائن، وإرسال فرق الاستطلاع لمعرفة أحوال العدو، وإذا نظرنا إلى فترات المعارك، نلاحظ: أنها تقع خلال الثمانية، أو التسعة أشهر التي تبدأ مع انتهاء حدَّة البرد، وتنتهي مع قدوم الشتاء، ولكن ما أن ينتهي هذا الفصل القارس والموحل لاسيما في بلاد الشام حتى يدبَّ النشاط في الجيش، فيبدأ بالاستعداد لمجابهة عدوِّه، وتصل إلى ميدان القتال قوات الأطراف.

وضمن أيام القتال كان صلاح الدين يستبشر بيوم الجمعة نظراً لمكانة هذا اليوم، وقدسيته لدى المسلمين، وهذا لا يعني: أنَّه كان يتوقف عن القتال في أيام الأسبوع الأخرى في انتظار يوم الجمعة، لكنَّه كان يتفاءل من نتيجة القتال؛ إذا صادف، وكان اليوم هو يوم الجمعة، ولعلَّ مجلس حرب صلاح الدين كان يخطط لجعل القتال يقع في يوم الجمعة، وهذا يعني: أن هذا اليوم كان له تأثيره الطيب على نفوس المقاتلين المسلمين، واندفاعهم البطولي في القتال.(الفتح القسي، العماد الأصفهاني،ص247).

13 ـ معاملة الأسرى: لم يكن صلاح الدين يميل إلى سفك الدِّماء، والانتقام من الأسرى الصَّليبيين على الرَّغم من أنَّهم جاؤوا في الأساس غزاةً محتلِّين لبلاد المسلمين. وفيما يروى عنه في هذا الصَّدد: أنَّه منع أولاده من قتل الأسرى؛ لكيلا تنموا في نفوسهم غريزة سفك الدَّم، فلربما إذا اعتادوا على قتل أسراهم، وهم صغار، فسيفعلون ذلك دون تفريق بين المسلم، والكافر، بل إنَّه حذَّر ولده الملك الظاهر ـ وهو ابن العشرين سنة ـ من إراقة الدم في اخر وصيةٍ له أثناء مرضه الأخير، وبصورةٍ عامة نجد: أنَّ معاملتهم كانت تتابين بين تشغيلهم في أعمال السُّخرة، وحجزهم في دمشق، وعرضهم للبيع، أو قتلهم، وكان القصد من الإبقاء على حياة الأسرى، لاسيما الأمراء منهم، هو الاستفادة منهم في إجراء عملية التبادل مع الأسرى المسلمين؛

في حين كان صلاح الدين ينتقم من بعض الأسرى شرَّ انتقام، لأنهم ارتكبوا جرائم شنيعة لا تغفر إِلا بسفك دمهم، بل والتشهير بهم قبل الشُّروع بقتلهم، إنَّ صلاح الدين كان يرى: أنَّ من الأفضل الإبقاء على حياة الأسرى للاستفادة من طاقتهم في بعض الأعمال.

14 ـ المعاهدات بين صلاح الدين والصَّليبيين: كان أول المعاهدات بين صلاح الدين والصليبيين في مستهلِّ سنة 571هـ/صيف 1175م, أي: في بداية استقرار صلاح الدين في بلاد الشام، ولا ريب: أنَّ ضغط الظروف السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، وغيرها هو الذي دفعه إلى عقد هذه الهدنة مع الصليبيين، وأيضاً: حاجته إلى وقتٍ إضافي لتصفية حسابه مع الجماعات الإسلامية المناوئة له، وكونه القائد الذي ينبغي عليه قيادة الجبهة الإسلامية ضدَّ الصَّليبيين، إضافةً إلى قطع الطَّريق على الجماعات الإسلامية التي رغبت في التعاون مع الصَّليبيين على حساب صلاح الدين، لاسيما أتابكة الموصل، وحلب.

وإن هذه الأسباب جميعها دفعت السُّلطان، والصليبيين إلى إيقاف القتال، وقيام فترة سلم بينهما، والواقع أنَّ صلاح الدين لم يعقد هذه الهدنة أو غيرها إلا وهو حذر من الصليبيين مخافة أن ينقضوها، كما حدث فعلاً، فكان يتَّخذ لنفسه الحيطة من الشروط، والبنود التي تقيد العدو، وتمنعه من القيام بالعدوان، وكذلك لم يكن يلقي السِّلاح، ويركن إلى السلم مع عدوٍّ محتل، بل إنَّه كان يضع جيشه في حالة استعداد، وترقُّب دائمين، ولا ينقطع عن القيام بمناوشته خشية غدره، وكذا كان صلاح الدين يستشير مجلس حربه حين يعزم على الاتفاق مع العدو لإيقاف القتال (صلاح الدين، علي الصلابي، ص397).

المراجع:

1.    المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هــ، 4 أجزاء.

2.    الفتح القسي في الفتح القدسي، العماد الأصفهاني، دار المنار، القاهرة، مصر، 2004م.

3.    تاريخ البحرية الإسلامية، عبد العزيز سالم وأحمد العبادي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1969م.

صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، ط1، دار ابن كثير، دمشق، سوريا، 2009م.

5.    صلاح الدين سقوط القدس وتحريرها، قراءة معاصرة، وليد نويهض، دار ابن حزم لبنان، الطبعة الأولى 1417 هـ 1997م.

6.    الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين، محسن حسين، مؤسسة الرسالة للنشر، بيروت، لبنان،1986م.

7.    كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبي شامة المقدسي مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1418 هـ/ 1997م.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس