ياسين أقطاي - يني شفق
في ذكرى مرور مائة عام على إلغاء الخلافة، لا زال هذا الموضوع يستحق التأمل والتدبر. فغياب الخلافة، وبالتالي افتقار المسلمين إلى مركز سياسي مبادر، يُعدّ من أهم العوامل التي تحدد واقع المسلمين اليوم. لقد تمّ إلغاء الخلافة داخل حدود تركيا، لكن نتائج هذا الإلغاء امتدت لتشمل جميع المسلمين.
كان لإلغاء الخلافة تأثيرٌ صادم على وعي وإدراك الجيل الأول من الإسلاميين في الجمهورية. فبعد هذا الحدث، يمكن وصف واقع العالم الإسلامي بأكمله بأنه "مرحلة ما بعد الخلافة". فلأول مرة في التاريخ الإسلامي، أصبح المسلمون يفتقرون إلى كيان سياسي يمثلهم، ويجسد مثلهم العليا، وينفذ خطط الإسلام، ويطبق أحكامه، ويمثل وجودًا سياسيًا باسم الإسلام. وهذا الأمر له بعدان مترابطان يجب التطرق إليهما:
البعد الأول: غياب سابقة فقهية، فلم يُعرف في الفقه الإسلامي سابقًا وضعٌ مشابه لما بعد إلغاء الخلافة. فقد عاش المسلمون سابقًا في حالات كانوا فيها أقلية مع شعوبٍ أخرى، لكنهم كانوا يشعرون بالانتماء إلى كيان سياسي آخر يمثلهم ويحدد مكانتهم وموقعهم.
البعد الثاني: تقييم الخلافة قبل إلغائها، يشير هذا البعد إلى حقيقة مهمة، وهي أن الخلافة في الفترة التي سبقت إلغاءها كانت بعيدةً كل البعد عن تلبية توقعات واحتياجات المسلمين في العالم. فقد أصبحت عرضةً لتلاعبات النظام العالمي ومتاحةً أمامه، وفقدت قدرتها على الدفاع عن مصالح المسلمين. كما كان هناك شعور بالاستياء من عدم تطبيق مبدأ الشورى في الخلافة، واستخدامها أحيانًا كأداة لخدمة مصالح الحكام السياسيين.
انتقد العديد من المفكرين الإسلاميين في ذلك الوقت، الذين عارضوا لاحقًا إلغاء الخلافة، طريقة استخدام منصب الخلافة.
من سعيد النورسي إلى محمد حمدي يازر، ومن محمد عاكف إلى محمد عاطف خوجة الإسكليپي، انتقد جميع المفكرين و علماء الدين الإسلامي تقريبًا، الأشخاصَ الذين احتلوا منصب الخليفة أو طريقةَ استخدام وإدارة منصب الخليفة، ويُظهر محتوى أطروحة علي عبد الرازق حول الخلافة، والتي أصبحت جزءًا من الأدب الإسلامي في مصر، هذه الانتقادات بوضوح. ولم يكن من المستبعد أن يشارك المثقفون الإسلاميون في الدولة العثمانية خيار إلغاء الخلافة حتى لو لم يكن مطروحاً، ومن المعروف أن عمر رضا دوغرول صهر محمد عاكف أرسوي قد قام بترجمة هذه الأطروحة إلى اللغة التركية عام 1927، وفي هذه الأطروحة، أكد عبد الرازق على أن الخلافة مؤسسة سياسية وليست دينية. وأوضح أن انتقالها إلى سلاطين الدولة العثمانية لم يمنحهم سلطة دينية. كما أكد أنه يجوز للمسلمين إظهار وجودهم السياسي من خلال مؤسسات أخرى في ظل ظروف مختلفة. وعندما نشر هذا العمل لم تكن الخلافة في تركيا قد ألغيت بشكل كامل، ولكن تم الإعلان عن أن جميع وظائفها وخصائصها قد تم دمجها في الشخصية المعنوية للبرلمان التركي، وهذا يدل على أنه إذا كان هناك ثقة كافية في كوادر الجمهورية، فإن مثل هذا الحل كان موجودًا بالفعل في الأفق السياسي للمفكرين الإسلاميين في ذلك الوقت.
وحتى الخطاب الطويل الذي ألقاه سيد بك في البرلمان التركي خلال مناقشات إلغاء الخلافة استند إلى نفس النقد الإسلامي للخلافة، بالإضافة إلى هذا فإن أهم مصدر استقى منه مصطفى كمال حججه في خطاباته التي ألقاها في مناسبات مختلفة لتبرير إلغاء الخلافة، مستشهدًا بحقائق تاريخية عن الخلافة في الإسلام، كان نفس التراكم من النقد الموجه ضد الخلافة.
ورغم ذلك ، لم يكن أيٌّ من الإسلاميين الذين انتقدوا الخلافة يطالب بإلغائها. وبات واضحًا من مواقفهم اللاحقة أنّهم لم يكونوا مستعدين لمثل هذه الخطوة. فأولاً وقبل كل شيء أدى إلغاء الخلافة إلى خلق فراغ قانوني وفقهي كبير جعل تطبيق الفقه الإسلامي أمراً مستحيلا. فلم يتناول الفقه الإسلامي بشكل كافٍ كيفية تطبيق أحكام الإسلام أو حتى كيفية إمكانية وجود إسلامي في ظلّ غياب مؤسسة قيادية إسلامية في العالم. لقد افترضت تعاليم القرآن وجود المسلمين في منظمة سياسية وخاطبتهم على هذا الأساس. بخلاف ذلك، تصبح الغالبية العظمى من هذه الأحكام ملغاة. وهذا يشمل مجموعة واسعة من التطبيقات، بدءًا من إدارة الشؤون المدنية اليومية إلى الأنظمة الاجتماعية على نطاق أوسع. وفي غياب كيان سياسي إسلامي، تُترك العديد من آيات القرآن الكريم التي يقدسها المسلمون بدون مخاطب.
من ناحية أخرى، يمكن إرجاع أصل الدولة، التي يمكن نسبها إلى العديد من المسلمين، إلى اعتبار كون المرء جزءًا من دولة شرطًا أساسيًا لعيش حياة مسلمة. كانت الدولة التي تطبق أحكام الله تُلقن المسلمين شعورًا قويًا بالانتماء والترابط، حيث يُنظر إليها كجسد واحد يطاع لتحقيق أهداف مشتركة. وعلينا ألاننسى أن هذه الدولة، التي تُنسب عادةً إلى العقيدة السياسية السنية، في النهاية شكلت الخلفية السياسية والفكرية للإسلاموية التركية.
وبالتالي، يمكن وصف الحالة الجديدة التي نشأت بعد إلغاء الخلافة، بتحول المسلمين إلى أعضاء بدون جسم. . حيث تم إلغاء النظام السياسي القديم، والجسم السياسي القديم الذي أحياه الإسلام، وتم استبداله بجسم اجتماعي وسياسي جديد، بنفس الأعضاء (جمهور الرعية). كان الجسم السياسي الجديد الذي تم استبداله يدعي الحق في الموارد البشرية أو المؤسسات التي منحت الحياة للجسم القديم. وكان أحد أهم أسباب الإصرار على تغيير المظهر الخارجي هو محاولة إلباس الأفراد الذين اعتبروا أنفسهم جزءًا من الروح السياسية القديمة، ملابس جديدة تلائم الروح السياسية الجديدة لجعلهم جزءاً منها.
وبالطبع، كان لهذا الشكل من الاستيلاء الجسدي بعدٌ مرتبط بالحداثة. كان يُنظر إلى بيع الناس لأجسادهم وأعضائهم التي يشعرون بالانتماء إليها في عالم العقل والروح، من خلال رمزية الملابس التي أُجبروا على ارتدائها، إلى كيان سياسي لا يؤمنون به، على أنه أمر كافٍ. في البداية يجعلنا هذا نعتقد أن الحداثة لا تطالب بوحدة العمل والإيمان. ولكن بالنسبة للأشخاص الذين واجهوا واقع غياب الخليفة والمطالبة بالتفكك، لم تكن وحدة الإيمان والعمل هذه ذات أهمية كبيرة لهم. خاصة وأن رمزية الملابس مثل "ثورة القبعة" التي واجهوها تضمنت إيحاءً بإعطاء الحياة لكيانات سياسية أخرى بديلة عن الإسلام، مما حوّل ردود الفعل الأولى على اللاخلافة إلى مأساة حقيقية. وبالنظر إلى الآثار الدينية الأخرى لهذه الحالة، لا يمكننا أن نعتقد أنها لم تخلق توترًا.
لذلك، بدأت عملية إلغاء الخلافة بشكل عام بصدمة وعي خطيرة للمسلمين في العديد من أنحاء العالم، خاصة للمسلمين الأتراك. وبعد التأثيرات الأولى لهذه الصدمة، لم يتقبل المفكرون الإسلاميون ـ الذين حاولوا فهم ما كان يحدث ـ في البداية هذا الوضع كوضع دائم وممكن للمسلمين. ففي ظل هذه الظروف حرمت الحياة الإسلامية من جميع أنواع العلاقات.وأصبح أدب "الحالات المؤقتة" أحد أبرز العناصر في النصوص الإسلامية الأولى في فترة ما بعد الخلافة. ومع ذلك، أدى هذا الوضع المؤقت أو حالة غياب الخليفة إلى ردود أفعال ونتائج وتطلعات مختلفة لدى الإسلاميين. وهذا الجانب يستحق التركيز والتفكير به بعناية لفهم أوضاع المسلمين اليوم.
ملاحظة: هذا المقال هو ملخص أطروحة الدكتوراه الخاصة بي بعنوان "الجسد والنص والهوية.. خطابات الإسلاميين حول الأصالة في تركيا الحديثة" والتي أتممتها في قسم علم الاجتماع بجامعة الشرق الأوسط التقنية عام 1997.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس