ترك برس
أمام الاتهامات التي وُجّهت للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتحويل البلاد إلى نظام يقوده رجل واحد، ردّ نائب الرئيس جودت يلماز بأن "الكتاب الأحمر" يُعد شاهدا على مدى التزام الإدارة بالإجراءات المنصوص عليها، لتلتفت الأنظار مجدداً إلى هذا الكتاب الذي يوصف بأنه "الموجّه والمحرّك السري" للدولة التركية.
يلماز أضاف في تصريحات صحفية أن الحكومة تتخذ جميع التدابير الخاصة بعمليات التشاور اللازمة، مما يعكس بنية الحكم المؤسسي بدلا من التركيز على القوة الفردية، مجدداً تأكيده التزام الحكومة بـ "الكتاب الأحمر"..
و"الكتاب الأحمر" وثيقة الأمن القومي في تركيا وثيقة سرية تعرّف بـ"الدستور السري" أو "الكتاب الأحمر التركي"، وتحدد توجهات الدولة تجاه التهديدات الداخلية والخارجية، وتضع إطارا للسياسات والإجراءات الأمنية التي يجب اتباعها لضمان الأمن القومي، ويتم تحديثها بشكل دوري كل 5 سنوات في اجتماعات مجلس الأمن القومي، وفقا لما يُستجد من تهديدات.
السياق التاريخي والأهمية
في أروقة السياسة التركية، تشكّل وثيقة الأمن القومي "الكتاب الأحمر"، المعروفة أيضا بـ"الدستور السري"، عنصرا محوريا في تشكيل الإستراتيجيات الدفاعية للبلاد، وهذه الوثيقة المُعدَّة بعناية فائقة من مجلس الأمن القومي التركي بحجم يضاهي الدستور ومغلفة بغلاف أحمر، تضع في طياتها تحليلا معمقا للتهديدات التي تواجه وجود تركيا، سواء كانت داخلية أم خارجية، مع تركيز خاص على تدابير مكافحة الإرهاب.
وفي قلب العملية التشريعية التركية تضطلع هذه الوثيقة بدور حاسم يشبه إلى حد كبير "سيف ديموقليس" الذي يُعلّق فوق رؤوس صُناع القرار، إذ تُستخدم بصفتها أداة رادعة تحول دون إقرار قوانين أو مراسيم تتعارض مع مبادئ السياسة الوطنية المنصوص عليها في الوثيقة، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".
فعندما يُذكر أن مقترحا معينا "لا يتوافق مع المادة كذا وكذا" من الكتاب، يُصبح من المستحيل تمريره، مما يبرز النفوذ الكبير والدور الرقابي الذي يلعبه هذا الكتاب في توجيه السياسات والتشريعات في الدولة.
يعود تاريخ "الكتاب الأحمر"، الذي يُشكّل حجر الزاوية في إستراتيجيات الأمن القومي التركي، إلى اللحظات الأولى لتأسيس مجلس الأمن القومي عام 1961، وكان ألب أرسلان توركيش، مؤسس حزب الحركة القومية وممثل تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أول من سلّط الضوء على هذه الوثيقة البالغة الأهمية، إذ كشف النقاب عن وثيقة مكونة من 10 إلى 15 صفحة مربوطة بغلاف جلدي أحمر كانت تُعرف آنذاك بـ"مبادئ سياسة الأمن القومي"، ليصرّح حينها قائلا: "للدولة كتاب أحمر"، مؤكدا بذلك على الدور المحوري الذي يلعبه هذا المستند في رسم معالم السياسة الأمنية لتركيا.
وفيما يتعلق بطريقة إعداد الوثيقة، تبدأ تقييمات أمنية تجريها الوزارات المعنية وترسلها على شكل مسودات إلى الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي، ومن ثم تُدمج المسودات لتشكيل "النسخة النهائية" من الوثيقة، التي تُعرض بعد ذلك للنقاش في جلسات مجلس الأمن القومي بحضور رئيس الجمهورية، ورئيس الأركان العامة، ووزير الدفاع الوطني، ووزير الداخلية، ووزير الخارجية، ووزير الخزانة والمالية، ووزير التربية والتعليم، وقادة القوات البرية والبحرية والجوية.
هذه الجلسات، التي تشهد عروضا تقديمية من الوحدات المختصة ونقاشات موسعة، تُكلل بصياغة الوثيقة النهائية التي تصير بمثابة "وثيقة الدفاع الوطني للدولة" بعد مصادقة رئيس الجمهورية عليها، ويتم تحديثها كل 5 سنوات، ما لم يحدث طارئ يستدعي تحديثا مبكرا.
وخلال الثلاثين عاما التي سبقت تولي حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، شهد الكتاب 3 تحديثات، كما تم تغييره 5 مرات خلال 22 عاما من وصول الحزب للحكم.
السرية والتأثير على السياسة
تشكّل وثيقة سياسة الأمن القومي في تركيا عنصرا حاسما ذا أهمية بالغة في البنية التشريعية للبلاد، إذ تفرض على كل برلمان جديد العمل وفق مقتضياتها دون مجال للتحييد أو التعديل، مانعة بذلك أي محاولة لتمرير تشريعات أو اتخاذ قرارات تتعارض مع توجهاتها.
وعلى الرغم من هذا الدور الجوهري، فإن تفاصيل هذه الوثيقة تظل طي الكتمان حتى بالنسبة لأعضاء البرلمان أنفسهم، بسبب تصنيفها معلومات "شديدة السرية"، وهذه الديناميكية المعقدة تضع صانعي القرار في موقف شديد الصرامة، حيث يُطلب منهم الالتزام بإرشادات لا يملكون حتى الحق في استعراضها أو نقاشها.
تجري عملية تبادل الكتاب في إطار من السرية والحرص الأمني الشديد، حيث يسلمه الرئيس المغادر إلى الرئيس الجديد ضمن إجراءات انتقال السلطة، وفي هذا السياق، يتولى جهاز الاستخبارات التركية مسؤولية نقل الكتاب بأمان إلى المستشارين المختصين.
التغييرات في التهديدات المدرجة والتوجهات السياسية
تُحيط السرية بمحتوى الكتاب الأحمر فيما يتعلق بالتهديدات الداخلية والخارجية، إذ لا يمكن الوصول إلى هذه المعلومات سوى بشكل محدود عبر البيانات التي تُصدر بعد اجتماعات مجلس الأمن القومي التركي الدورية، أو عبر التسريبات الإعلامية النادرة.
لكن فيما يخص التهديدات الداخلية، استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة صياغة توجهات الكتاب الأحمر بخصوص الجماعات الإسلامية، التي كانت تُعد سابقا تهديدا داخليا، وتوجيه الأنظار نحو الجماعات الإرهابية التي تسيء استخدام الدين لزعزعة استقرار الدولة.
وعلى سبيل المثال، استبعدت جماعة فتح الله غولن، المعروفة بـ"تنظيم الدولة الموازية"، من كونها عنصرا من عناصر التهديد الداخلي تحت بند "الجماعات الدينية"، إلا أنها عادت لتكون على رأس قائمة التهديدات عام 2015 بعد محاولة للانقلاب على الحكم، بينما جاء تنظيم القاعدة وحزب الله بين أبرز التهديدات الخارجية حينها.
كما أسقط "الدستور السري" سوريا وإيران واليونان (جزئيا) وبلغاريا وأرمينيا وجورجيا من لائحة الدول التي تهدد تركيا، بعد أن كانت هذه الدول، قبل التعديلات، تعد الأكثر تهديدا لأنقرة.
وأفادت وسائل إعلام تركية أن التعديل الذي جرى عام 2010، ركّز بشكل أساسي على أن عدم الاستقرار في المنطقة سببه النشاط الإسرائيلي وسياسة تل أبيب التي تسبب سباق التسلح في المنطقة.
بوجه عام، تستمر قضايا مثل الخلاف مع اليونان حول المنطقة البحرية البالغة 12 ميلا، والنزاعات القومية والطائفية، والمشكلة القبرصية، في تثبيت مكانتها ضمن جدول أعمال الكتاب الأحمر.
وأيضا تصرفات إسرائيل، خاصة حيال ردها على "معركة طوفان الأقصى" وعدوانها على قطاع غزة قد تصنفها كأحد التهديدات الخارجية لتركيا، لا سيما في ضوء التوترات التي شهدتها العلاقات بين البلدين خلال الحرب، كما تظل الأحداث في منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا محور تركيز مهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!