ترك برس
عقب إعلان الهند والولايات المتحدة والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا عن الخطوة الأولى لتسهيل إنشاء الممر الهندي الأوروبي، على هامش قمّة مجموعة العشرين المنعقدة في نيودلهي خلال سبتمبر/أيلول الماضي، أشار خبراء إلى "الإسهامات الاستراتيجية" التي يمكن أن تقدمها تركيا لهذا المشروع الذي أطلق عليه اسم المَمرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا والذي ينظر إليه على أنه قد يؤدي إلى إعادة تشكيل طرق التجارة وممرات الطاقة والموارد عبر العالم.
البُعد السياسي للممر
يُعتبر مشروع الممرّ بمثابة نسخة حديثة من طريق التوابل التاريخية، ومنافساً لمشروع طريق الحزام الصيني.
بهذا المعنى، فإنّ ساحة المعركة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، والتي كانت حرباً تجارية لفترة طويلة، تحوّلت إلى "حروب ممرات" تضمن الأفضلية الاقتصادية.
إلى جانب ذلك، يمكن القول إنّ الممرّ يتحدى نظيره الصيني البالغة قيمة إنجازه 8 تريليونات دولار، هو ممر سياسيّ، وليس لوجستياً فحسب، بحسب تقرير على موقع "تي آر تي عربي".
وفي واقع الأمر، لم تتم دعوة تركيا إلى الإسهام في تشييد الطريق التجاري الجديد أو الممرّ اللوجستي العالمي الجديد الذي سيربط بين الهند وأوروبا. وعند النظر من هذا المنظور، فإنّ مشروع الممر له خصائص مشابهة لمشروع خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي "إيست ميد".
لم يُعرض على تركيا المشاركة في مشروع "إيست ميد" لكن مصمّمة المشروع، أي الولايات المتحدة الأمريكية، انسحبت منه في آخر المطاف. إنّ بناء أي خط تجاري جيوسياسي اليوم من دون تركيا، وتخطيط طرق تجارية جديدة ولوجستية عابرة للقارات من دون التركيز على الموقع التركي الإستراتيجي؛ ليس خياراً عقلانياً.
وعلى غرار مشروع "إيست ميد" الذي خططت له الولايات المتحدة وظلَّ مجرد حبر على ورق، فمن غير المرجح أن ينجح الممر الهندي الأوروبي من دون تركيا، بل وقد يكون مصير مشروع الممر هذا شبيهاً بمصير "إيست ميد".
بعبارة أخرى، ربما يولد مشروع الممر الهندي الأوروبي، الذي يستثني تركيا ويحمل كثيراً من الأعباء السياسية ميتاً، لا سيّما أنّ مشروع الممر لا يعكس عقلية الشركات التجارية في الولايات المتحدة.
كما أنّ العديد من المؤسسات البيروقراطية، مثل وزارة الخارجية الأمريكية، لا علم لها بالمشروع، إذ تم إعداده بسرعة من طرف فريق بايدن في البيت الأبيض ويثير بعض الشكوك حول جدواه.
وفي واقع الأمر، يتطلّب مشروع الممرّ استثمارات ضخمة في البنية التحتية، ومن الواضح أنّ الولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل تكاليف هذه الاستثمارات لوحدها.
ومن ناحية أخرى، فإنّ مخطط مشروع الممر التجاري يمرّ عن طريق البرّ عبر ميناء "بيرايوس" اليوناني، وهي فكرة ليست جيّدة؛ لأنّ غالبية أسهم الميناء مملوكة للدولة الصينية عبر "شركة الشحن البحري الصينية (كوسكو)".
لذلك، يواجه المشروع العديد من المعضلات، ويمكن التغلب بسهولة على هذه المآزق في مشروع الممر عبر إشراك تركيا.
تركيا وأربع مساهمات إستراتيجية
هذا الممر، وهو في الغالب نتاج فريق السياسة الخارجية في البيت الأبيض، ويبدأ من مومباي في الهند ويمرّ إلى دبي بحراً، ثم يصل إلى السعودية والأردن وإسرائيل عبر السكك الحديدية من دبي، ومن المفترض أن يمتد خطّه من ميناء حيفا إلى ميناء بيرايوس في اليونان.
ووفقاً لعديد من الخبراء، فقد أعدت خطة الممر المعلنة على عجل للغاية، وتتضمّن العديد من أوجه القصور، فعلى سبيل المثال، من غير الواضح كم سيكلف الممر إجمالياً، وما هي الدولة التي ستدفع هذا المبلغ.
وقد سبق أن أعرب عدد من السياسيين ورجال الدولة الأتراك عن استعداد تركيا للانضمام إلى هذا الممر، خاصةً الرئيس أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان. كما يمكن لتركيا، التي يبلغ اقتصادها حوالي تريليون دولار، أن تقدّم مساهمة إيجابية وفعّالة في المشروع في أربع نقاط محوريّة منه على أقلّ تقدير.
أولاً وقبل كل شيء، تُعتبر تركيا منصة تجارية رئيسة في حوض المتوسط والعالم، عبر شبكة نقل لوجيستي ضمنه موانئ، وقدرات إنتاجية هامة.
وفي هذا الصدد، يمكن لتركيا استقبال السفن القادمة من حيفا في ميناء مرسين، ولعب دور حاسم في مشروع ممرّ الهند والشرق الأوسط وأوروبا، من خلال موانئ مثل أنطاليا والإسكندرونة، التي قد تسرع من تدفق التجارة والسّلع.
علاوةً على ذلك، عندما ننظر إلى تجربة تركيا، يمكن الجزم أنّ التجارة تتم بطريقة آمنة وسريعة وشفافة تركيّاً؛ ما يجعل من قيمة مساهمة أنقرة في هذا السياق ذات قيمة كبيرة.
ثانياً، تتمتع تركيا بموقع مهم، إذ تقع في نقطة جغرافية مهمة جداً وعلى مفترق الطرق بين الدول الشرقية، مثل الهند والدول الغربية مثل ألمانيا. ولذلك فإنّ موقع تركيا الإستراتيجي من الناحية الجغرافية يعزّز فكرة أنّها يمكن أن تساهم في مشروع الممر.
ثالثاً، من مميزات تركيا أيضاً أنّها تمتلك بنية تحتية قوية للغاية وتسيطر على سوق اقتصادية واسعة النطاق. وبهذا المعنى، يُمكن قراءة إدراج تركيا في مشروع الممرّ أنّه سيكون تطوراً إيجابياً يؤثر على العمليّة من حيث تنويع التجارة وتوسيعها وانعاشها.
وتملك تركيا القدرة على المساهمة في النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل وتسريع وقت النقل، وتريد تقديم مساهمة جادة في مشروع يتمتّع بمثل هذه الإمكانات الضخمة.
وفي هذا الصّدد، فإنّ مبادرة "آسيا مرة أخرى" التي أعلنتها تركيا عام 2019 تتوافق أيضاً مع مشروع الممر. لذلك، يمكن القول إنّها ستساهم مؤسسياً وبرؤية واضحة في مشروع الممر بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
رابعاً وأخيراً، يمكن لتركيا أن تساهم في مشروع الممر هذا من منظور جغرافي سياسي، إذ أنّه جيوسياسياً يستهدف ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا دولتين على الأقل، ونقصد هنا الصين وروسيا.
وكما هو معروف، فقد أثارت جائحة "كوفيد19" تساؤلات حول الاعتماد الكامل على الصين، بعد انخفاض تدفقات المنتجات بسبب الوباء، وزيادة تكاليف النقل، واليوم تحاول العديد من الدول تحويل الاعتماد عن الصين إلى مناطق أخرى.
عند هذه النقطة، يهدف ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا إلى تقليل الاعتماد على الصين ووقف صعود الصين، كما يرتبط الممر أيضاً بروسيا، إذ أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تغيير ميزان القوى في أوروبا.
إنّ ضم تركيا، التي هي على اتصال مع كل من الصين وروسيا، ولو بدرجات متفاوتة، في ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا، قد يعزز الممرَّ من الناحية الجيوسياسية.
ونتيجةً لذلك، رغم عدم إدراج تركيا في المشروع الذي تم الإعلان عنه في قمة مجموعة العشرين في المرحلة الأولى، إلّا أنّ تركيا مستعدة للاشتراك في مشروع الممر، وتظهر العوامل المذكورة سالفاً أنّ أي مساهمة تركية يمكن أن تشكّل دفعة كبيرة إلى الأمام في مشروع الممر وإسهاماً جاداً في إنجاحه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!