يوسف قابلان - يني شفق
لا ينبغي أن يكون السعي إلى السلطة ونيلها هدفا في حد ذاته للمسلمين، فالمسلم لا يعيش إلا ليفوز برضا الله. وأولئك الذين يهملون إرضاء الله سيقومون بتدمير العالم والحياة، وسيحولونهما إلى جحيم وساحة تحكمها قوانين الغابة.
سيطرة الأدوات.. ضياع حرية الإنسان
كما ذكرت في مقال سابق: نحن نعيش في عصر الثقافة والإعلام، لكن أكبر مشكلة في عصر الثقافة هي تبخر الثقافة، وأكبر مشكلة في عصر الإعلام هي مشكلة انعدام التواصل.
هناك مفارقة عظيمة هنا. وسبب هذه المفارقة هو ترقية الأدوات إلى مرتبة الأهداف، وتحول الإنسان في النهاية إلى عبد للأدوات التي صنعها. وفي عالم كهذا، لا يمكن للإنسان أن ينجو من فقدان حريته وإرادته الحرة. فالسؤال الذي يجب التعمق فيه والإجابة عليه هو: لماذا يحول الإنسان الأدوات إلى أهداف، ولا يمكنه منع الأدوات من التقدم على الأهداف؟
الثقافة والإعلام والمعرفة كلها أدوات.
لكن بالنسبة لأولئك الذين يسعون لتصميم الحياة وفقا للرؤية العلمانية، فإن المعرفة والثقافة والإعلام أدوات تستخدم لفرض الهيمنة على الأرض. وإن سعيت إلى استخدام أي أداة للسيطرة، فلن تستطيع التخلص من كونك أسيرا لهذه الأداة.
وإن سعيت إلى الاستيلاء على أي أداة، فستسيطر عليك هذه الأداة في النهاية، وتخرجك عن مسارك، وتتركك على قارعة الطريق. وإذا كنت قلقا بشأن امتلاك أي أداة، فستمتلكك تلك الأداة في النهاية.
وإذا جعلت الاستيلاء على الأدوات هدفك، فستنتج "عقلانية آلية" تحولك إلى عبد للأدوات. وسيؤدي ذلك إلى رهن إرادتك الحرة للأدوات وفقدانك حريتك.
أود أن ألفت انتباهكم إلى التناقض المحرق الذي يتسم في النهاية بصفة مدمرة، كيف يمكنك أن تسعى إلى السيطرة على الأدوات وتجعلها هدفا لحرية الإنسان، بينما تواجه في النهاية كارثة وجودية تؤدي إلى فقدان الإنسان حريته وتحوله إلى عبد للأدوات؟
المسألة ليست في السعي إلى السلطة، بل في الوجود، في تسلق سلم الكمال.
لذلك، لا تكمن المسألة في السعي إلى السلطة ثقافيا أو سياسيا، بل في امتلاك الثقافة أو السياسة. فالمسألة لا تكمن في التملك، بل في الامتلاك، وفي اكتشاف حقيقة محررة تغذي الجوهر وتساعد على تسلق سلم الكمال، وفي الانطلاق في رحلة اكتشاف الذات. فمفاهيم "السيطرة الثقافية" و"السلطة الثقافية" هي مفاهيم مدمرة تقوض أساسات الثقافة وأصحابها منذ البداية.
إن جوهر الحياة لا يكمن في السيطرة، بل في الوجود. فالوجود الحقيقي هو السعي لإبراز الحقيقة بدلا من الذات، هو رحلة اكتشاف الذات والحقيقة والإله، وصعود درجات الكمال.
اعرف نفسك، واعرف ربك، واعرف حدودك، فمعرفة الإنسان لنفسه تعني انطلاقه في رحلة المعرفة، ومعرفة الإنسان لربه تعني العثور عليه، ومعرفة الإنسان لقدره تعني تخلصه من قيود نفسه ووصوله إلى ذاته وتقوية جوهره ونيل حريته وكونه نفسه. أن يتنفس الإنسان، وأن يخرج الهواء من رئتيه، وأن يصبح هو نفسه الهواء. فليتنفس الإنسان، وليخرج الزفير، وليكن هو النفس. ليبدأ رحلة حياته، وليستمر في هذه الرحلة، وليكن هو الطريق. وهذا يعني أن يبدأ رحلة ستغير مجرى التاريخ.
أقول لكم: إن لم تكونوا مسيطرين ثقافيا، فلن تتمكنوا أبدا من السيطرة سياسيا. ولكن لا أشير بهذا القول إلى أن الهدف هو السيطرة والوصول إلى السلطة، بل أشير إلى أن الهدف هو أن تكون عبد الله الحق، وأن تتنفس وتتحرك برغبة في نيل رضاه، وأن تدرك أنك عبد الله وليس عبد الدنيا والقوة والأدوات.
وإن تحركت بدافع رضا الله، وكان همك نيل رضاه، فلن تقدم على تقديس الأدوات وتحويلها إلى آلهة، ولن تصبح عبد هذه الأدوات، ولن تفقد حريتك.
وإن عشت لكسب رضى الله، فلن ترهن إرادتك الحرة للأدوات التي لا إرادة لها، ولن تقدم على تقديس هذه الأدوات بحيث تصبح هي من تسيطر على إرادتك، بل ستغلق الطريق أمام الأدوات التي تسعى إلى تحويلك إلى عبد لها بدروع الحقيقة الراسخة والقوية.
فدروع الحقيقة تتيح لك الوصول إلى مفاتيح الحقيقة وخرائطها، التي تمكنك من تدمير العقبات التي تمنعك من معرفة نفسك وربك وحدك، وتجهزك لرحلة الحقيقة، وتمنعك من الانجذاب إلى الأصنام، سواء كانت أصناما دينية أو نفسية أو دنيوية، وتتيح لك فتح أبواب الحقيقة على مصراعيها.
وبالتالي، إذا لم تكن لديك سيادة ثقافية بمعنى الانطلاق في رحلة تسعى فيها إلى نيل رضا الله، أي رحلة طويلة وشاقة لكنها سامية وممتعة، تعيدنا إلى الحياة وتقيمنا على أقدامنا، وتمكننا من إعادة كتابة التاريخ من خلال تنشئة جيل جديد أمثال الغزالي والرازي وابن عربي وابن خلدون وسنان والعطري، فلن تتمكن أبدا من تحقيق السيادة السياسية، حتى لو فزت بالانتخابات بنسبة 70٪ أو 80٪، ولن تتمكن من إزالة الحصى الذي يعيق تقدم بلدك، ولن تتمكن من وضع لبنات البناء التي ستمهد لنا الطريق.
فالأساس هو "البناء الثقافي": أي أن نجعل الثقافة حية تحيينا وتجسد الحقيقة في حياتنا، وأن نجعلها قوة دافعة ونابضة بالحياة وفعالة بما يكفي لبناء عالم نعيش فيه كمسلمين وننير به دروب الإنسانية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس