ترك برس
نشر السياسي التركي المعروف ياسين أقطاي، مقالا مطولا سلط فيه الضوء على مكانة العلّامة اليمني الشيخ "عبد المجيد الزنداني"، الذي توفي ودفن في إسطنبول قبل أيام.
واستشهد أقطاي في بداية مقاله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، مؤكدا أنه في كل مرة يلتقي فيها بأصدقائه اليمنيين، يشعر بعمق هذا القول وارتباطه بواقعهم، ويلمس دقته في تصرفاتهم.
وأضاف: "من أصغرهم إلى أكبرهم تلاحظ في شخصياتهم وسلوكياتهم ومنهجهم في التعامل مع الأمور وفي أقوالهم، ملامح النضج والحكمة والمعرفة، إلى جانب المشاعر الصادقة والحماس المتقد".
أقطاي، ذكر في المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق، أنه بعد الاضطرابات الكبيرة التي شهدتها اليمن عقب الربيع العربي، اضطر عدد لا بأس به من اليمنيين إلى الهجرة والاستقرار في تركيا. ومع أن عددهم ليس كبيرا، إلا أن معظمهم يفضل الهجرة إلى مصر لما تقدمه من مزايا، أو إلى المملكة العربية السعودية لكونها دولة مجاورة.
ويرجع ذلك - حسب رأي أقطاي - إلى أن اليمنيين ينقلون تجارتهم ومهنهم وشبكات علاقاتهم وإمكانياتهم معهم أينما ذهبوا، مما يجعلهم مرغوبين في العديد من الدول العربية. وتقدم مصر على وجه الخصوص مزايا مغرية لجذب اليمنيين الذين يواجهون صعوبات في بلادهم، كتسهيل الحصول على الإقامة، ومنح الجنسية مقابل شراء عقارات.
وأوضح أنه في السعودية لطالما شكل اليمنيون عصبا اقتصاديا هاما على مدار سنوات طويلة. ولكن مع اندلاع الحرب، فرضت الحكومة قيودا على إقامة واستثمار اليمنيين، شأنهم شأن باقي الأجانب، مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى دول أخرى. ومؤخرا أدركت المملكة العربية السعودية بوضوح التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه السياسة، فعملت على استرجاع المستثمرين الذين فقدتهم عن طريق تسهيل الاستثمارات بشكل كبير، بما في ذلك إلغاء شرط الكفالة من قبل مواطن سعودي.
وخلال العقد الماضي، استقر عدد كبير من اليمنيين في تركيا، وقاموا باستثمارات ضخمة هنا، وأظهروا روح التضامن فيما بينهم دون إحداث مشاكل تُذكر. ومع ذلك، يعاني بعض اليمنيين في تركيا مؤخرا من مشاعر معادية للأجانب، مما يدفع بعضهم وخاصة أصحاب الاستثمارات، إلى مغادرة البلاد والاستثمار في المملكة العربية السعودية ومصر.
وتابع: رحل عنا مؤخرا الشيخ عبد المجيد الزنداني، أعظم علماء اليمن، عن عمر يناهز 82 عاما. وقد اختار الشيخ الزنداني قضاء آخر خمس سنوات من حياته في إسطنبول. لا شك أن ظروفا قاسية أجبرته على مغادرة اليمن مسقط رأسه، والسعودية التي عاش فيها لفترة طويلة. لكن اختياره الاستقرار في إسطنبول يحمل دلالات أعمق من مجرد ظروف إجبارية.
وأردف: التقيت به في كل من اليمن ومكة المكرمة، وشعرت بوضوح أن تركيا، وإسطنبول على وجه الخصوص، كانتا حاضرتين في أعماق تفكيره وقلبه. فبالنسبة له كما هو الحال بالنسبة لجميع المسلمين الواعين، كانت تركيا مركزا للخلافة. فقد كان يرى فيها أشخاصا لا زالوا مستعدين للحفاظ على روحها وميراثها حتى بعد إلغائها. وقد ناضل الشيخ الزنداني طوال حياته من أجل توحيد المسلمين سياسيا، ومَنْحهم مكانة وقوة في السياسة الدولية والنظام العالمي.
وقد انعكست جهوده في هذا الاتجاه على مسيرته العلمية بشكل واضح. فقد بدأ حياته المهنية بدراسة الكيمياء والصيدلة، ثم جمع بين تخصصه هذا وبين العلوم الإسلامية، وخاصة الدراسات القرآنية، لينشئ لنفسه عالَما خاصا به، كما يفعل كل عالِم. فقد اهتم بدراسة إعجاز الآيات القرآنية التي تشير إلى الخلق والكون والعديد من القضايا الأخرى، التي لم نتمكن من فهمها إلا في عصرنا الحالي.
واستفاد من معرفته بالكيمياء والصيدلة لإجراء دراسات علمية متقدمة في مجال الطب النبوي. ولكن عندما سيطر الحوثيون على مدينة صنعاء، كان من أولى أهدافهم تدمير مختبر الشيخ الزنداني وأرشيفه، لما يحتويه من أبحاث علمية قيمة، قيل إنها حققت تقدما هاما في مجال علاج فيروس العوز المناعي البشري (الإيدز)، وبعض أنواع السرطان.
كما أسس الشيخ الزنداني جامعة باسم "جامعة الإيمان"، مستوحياً اسمها من الحديث النبوي "الإيمان يمان". ولكن بالطبع كان لاسمها دلالة خاصة على رسالتها في نشر الإيمان من خلال أبحاثها ودراساتها. وقد أصبحت هذه الجامعة بمثابة بديل لجامعة الأزهر، حيث تستقطب طلابا من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وتضم أساتذة من مختلف الدول. وحتى اليوم لا يزال العديد من الطلاب الذين يتخرجون منها يشغلون مناصب مهمة للغاية في بلدانهم.
وكانت إسهاماته في تأسيس " الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" أحد أهدافه النبيلة. كما شارك بقلبه وبكل إمكانياته في دعم القضية الفلسطينية. وكذلك سعى جاهدا لتحقيق استقلال اليمن التام، وحرص على توحيد جهود علماء المسلمين والطلاب والمجاهدين من الدول الإسلامية الأخرى. وفي الآونة الأخيرة، كان يملؤه حماس خاص تجاه تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان. وأتذكر شعوري بالخجل عندما كنت أرى حماسه وشغفه وهو يتابع الأخبار المتعلقة بتركيا وأردوغان، وبريق عينيه الدامعتين من الفرح.
وتابع أقطاي:
في آخر لقاء لي معه في مكة المكرمة، روى لي أحد أبنائه كيف أنه فور سماعه بأولى الأخبار عن محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، توجه فورا إلى المسجد الحرام للصلاة والدعاء، وطلب عدم الاتصال به إلا في حال ورود أخبار سارة. وخلال نفس اللقاء، أخبرني الشيخ الزنداني أنه يتابع مسلسلي "قيامة أرطغرل" و"السلطان عبد الحميد" بمتعة كبيرة، وينتظر بفارغ الصبر حلقاتهم الجديدة. وفور عرضها في تركيا كان أبناؤه الذين يعملون كسكرتارية له، يحرصون على ترجمتها إلى العربية أو دبلجتها حتى الصباح، ليشاهدها الشيخ الزنداني.
وكان من أعظم همومه، سواء خلال إقامته في المملكة العربية السعودية أو في تركيا، هو العمل على إيجاد مخرج من الأزمة التي تعصف ببلاده من خلال إجراء دبلوماسية علمية مع جميع الأطراف. فقد كان يسعى جاهدا لإعادة إرساء الوحدة الوطنية حول مبادئ الثورة اليمنية ردا على الصراع مع الحوثيين.
وكان الشيخ الزنداني يقيم حوارا خاصا مع كل فئة من فئات المجتمع سعيا منه إلى تحقيق موقف وفهم موحد في العالم الإسلامي. وقد جمعه هذا النهج الذي سار عليه طوال حياته برفيق رائع وغير متوقع في مصلى الدفن حيث أقيمت صلاة جنازته، فقد التقى الشيخ الزنداني بحسن كيليج، الزعيم الروحي لجماعة "إسماعيل آغا"، في مكة المكرمة، كما التقى به مرة أخرى في تركيا قبل وفاته بأشهر قليلة وتبادلا أطراف الحديث.
وربما لم يكن الشيخ الزنداني صوفي المشرب، ولكن لم يمنعه ذلك من التواصل مع أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة. بل كان يُظهِر بحكمة يمنية أصيلة، ومحبة صادقة لكل مسلم، قلبا مفتوحا لأصوات الأمة الإسلامية كافة.
كان الشيخ الزنداني يرغب بشدة أن يدفن في مكة المكرمة، لكن القدر أراد له أن يؤدي رسالة أخرى في آخر فصول حياته. فقد دفن في تركيا، البلد الذي أحبه، حيث خُصص له مكان ذو معنى أعمق مما كان يتوقعه في مقبرة السلطان أيوب.
رحم الله الشيخ الزنداني، وأسكنه فسيح جناته، وأعلى منزلته.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!