طه كلينتش - يني شفق
قبل أسبوعين، كنت في سراييفو لحضور حفل خطوبة صديق عزيز. وبعد انتهاء الحفل الذي أقيم في الهواء الطلق في حديقة جميلة بمنطقة إليتشا، وفي طريق عودتنا إلى وسط المدينة توجهنا إلى جامع الملك فهد لأداء صلاة العشاء. لطالما أردت زيارة هذا الجامع في رحلاتي السابقة إلى سراييفو، لكنني لم أتمكن من ذلك.
بُني جامع الملك فهد، الذي سمي على اسم الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ملك السعودية آنذاك، في الفترة ما بين 1998 و 2000 مباشرة بعد انتهاء حرب البوسنة. ويتكون الجامع من مساحة واسعة مخصصة للصلاة، بالإضافة إلى قاعة للمحاضرات ومكتبة ومركز ثقافي، يستقبل الجامع اليوم بشكل خاص السياح العرب الذين يزورون البوسنة. وقد كان هذا الإقبال واضحاً خلال صلاة الجماعة. كما أن الدورات المجانية في اللغة العربية والبوسنية التي يقدمها المركز الثقافي بالجامع تمثل فرصة رائعة لكل من المواطنين والأجانب.
ويعتبر حد المشاريع العديدة التي شيدتها ومولتها المملكة العربية السعودية في مختلف أنحاء العالم منذ خمسينيات القرن الماضي. فمنذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود وأبنائه الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد والملك عبد الله، تم إنشاء عدد لا يحصى من المدارس الدينية والمساجد والمكتبات والمراكز الثقافية في العديد من الدول. هذه السياسة السعودية ساهمت في نشر المذهب السلفي باعتباره "الأيديولوجيا الرسمية" للبلاد، كما أكسبت الأسرة الحاكمة مكانة مرموقة لدى الشعب.
ومن بين جميع الأسماء المذكورة أعلاه، كان الملك فيصل رحمه الله هو الوحيد الذي تمكن من تجاوز حدود السلفية والتوجه إلى جميع المسلمين، وتجاوز قوالب الأيديولوجيا الرسمية ليعمل على مستوى الأمة. فقد شهدت فترة حكمه (1964-1975) استقرار عدد كبير من الشخصيات من مختلف الدول الإسلامية في المملكة العربية السعودية بحرية، حيث وجدوا فيها ملاذاً آمناً للدعوة والإرشاد والتعبير عن آرائهم السياسية. وعندما أُعدم سيد قطب عام 1966، أمر الملك فيصل بإقامة صلاة الغائب عليه في جميع مساجد المملكة، وأمر وزارة التربية والتعليم السعودية بنشر كتاب "الجهاد في الإسلام" الذي يضم مقالات حسن البنا حول الجهاد، ثم إضافته إلى المناهج الدراسية الرسمية في البلاد. ولا يزال بإمكاننا اليوم العثور على بصمات الملك فيصل في جميع دول العالم تقريباً، كجامع عمر بن الخطاب ومركزه الثقافي في مدريد ومسجد شاه فيصل في إسلام آباد عاصمة باكستان.
لم يكن هدفي من زيارة جامع الملك فهد في سراييفو مقتصراً على أداء صلاة العشاء. فقد كنت أرغب أيضًا في ملاحظة "الصورة الإسلامية المعتدلة" التي تسعى المملكة العربية السعودية لتطبيقها اليوم تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. فولي العهد الذي تراجع تماماً عن جميع الممارسات التي اتبعتها بلاده، وخاصة في عهد الملك فيصل، يسعى إلى مشروع ما يسميه "العودة إلى الإسلام المعتدل"، ولم يقتصر أثر هذا مشروع على المملكة العربية السعودية فحسب، بل امتد ليشمل "المساجد السلفية السعودية" في مختلف دول العالم. هذه المراكز التي كانت في السابق بمثابة قواعد لنشر السلفية، أصبحت الآن لا تتسامح مع أي أفكار متطرفة. وفوق ذلك بدأت المراكز بإزالة أي محتوى يتعلق بـ "الإسلام السياسي" من خطبها ودروسها ومكتباتها، وبذلك أصبحت هذه المراكز التي تمولها السعودية في الخارج تتوافق مع السياسة الرسمية للمملكة العربية السعودية.
لطالما تبنت المملكة العربية السعودية، على مدار العقود الماضية، نهجا إقصائيا للغاية تجاه التصوف وثقافته وجميع مظاهره، وتجاه بعض التقاليد في العالم الإسلامي، وحتى تجاه تراثها التاريخي، تحت مسمى السلفية، واليوم، بينما تتجه المملكة نحو اتجاه معاكس تمامًا، يمكن القول إن السلفية نفسها قد حادت عن طريقها. ففي السابق، كانت المملكة تتبنى مواقف سياسية واضحة وحازمة بشأن القضايا التي تهم الأمة الإسلامية، ولكننا نشهد اليوم علماء دين سعوديين يدينون حركة حماس بسبب ما يحدث في غزة، كما نجد حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تتبعها أعداد كبيرة من المتابعين تقوم بتكفير الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال الإسرائيلي. وفي الوقت الذي تشهد فيه أسواق سراييفو مظاهرات ضد إسرائيل ويشارك فيها أعداد كبيرة من السياح العرب، نلاحظ غياب السياح السعوديين تماماً عن مثل هذه المظاهرات، وهو ما يشير بوضوح إلى أن هذا ليس اختيارًا شخصيًا، بل هو انعكاس للسياسة الرسمية التي تتبعها الرياض.
كثيرا ما أناقش في التغيرات السياسية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية في هذا العمود، وذلك لأن المملكة ليست مجرد دولة عادية. فوجود الحرمين الشريفين يجعل كل ما يحدث فيها يهمنا جميعًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس