ترك برس
استعرض تقرير في موقع "الجزيرة مباشر" للكاتبة والباحثة المصرية صالحة علام، كيفية استخدام إيران للوساطة التركية في المنطقة لتحقيق أهدافها السياسية والإقليمية، وخاصة في الملفات الساخنة مثل الصراع في سوريا والعراق.
تخفيض حدة التصعيد من جانب إيران ضد إسرائيل، بعد مرحلة من التوتر عاشتها دول المنطقة خلال الأسابيع الماضية، عده كثيرون إشارة إلى نجاح الوساطة التركية لدى طهران، خاصة أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين أكدت أنهم قرروا تأجيل العملية الانتقامية ضد إسرائيل -ردًّا على اغتيالها إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران- بهدف إتاحة الفرصة كاملة أمام المباحثات الجارية بين حماس وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق يفضي إلى وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن.
ومما عزز هذا الطرح التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي أردوغان، خلال استقباله الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إذ أوضح أن بلاده ستقف بكل ما أوتيت من قوة ضد محاولات إسرائيل الرامية لإشعال نار الحرب بالمنطقة.
الحقيقة أن طهران الراغبة بشدة في الثأر من دولة الاحتلال وجدت أن تدخلها كطرف خفي في المباحثات الدائرة للتوصل إلى وقف الحرب -تحت غطاء القبول بمبررات الوساطة التركية- يعد فرصة ذهبية عليها انتهازها، لتأكيد قوتها، وإظهار مدى تأثيرها في ملفات المنطقة، وتحديد مساراتها وفق ما تريد وترغب، خاصة تلك الملفات التي تهم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين، وترتبط مباشرة بمصالح إسرائيل.
وهل هناك أفضل من التحرك بهدوء في ملف المفاوضات، ووضع الإطار العام لتحديد بوصلتها، موجهة من خلاله صفعة للغطرسة الإسرائيلية التي تخطت جميع الحدود، وخرقت كافة الخطوط الحمراء، في انتهاك صارخ لأمنها القومي وسيادتها، بل واستهانت بقدراتها ومكانتها، حتى ولو جاء هذا الثأر بشكل مبدئي عبر الأطر السياسية والدبلوماسية إلى حين، هروبًا من الضغوط الإقليمية والدولية التي تعوق قيامها بعمل عسكري موسع.
وقد كانت إيران حاضرة في جهود المفاوضات، وإن لم تشارك فيها، وهو ما يمكن أن نلمسه في العديد من المواقف التي تمخضت عن هذه الجولة، فهناك التصريحان اللذان أدلى بهما الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال مباحثات الدوحة، إذ حذر في أولهما من محاولة إقدام أي طرف في الشرق الأوسط على اتخاذ إجراءات تهدف إلى تقويض عملية التوصل إلى اتفاق يتم بمقتضاه وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الرهائن، وهو التصريح الذي بدا وكأنه رسالة تحذير لطهران لوقف تدخلاتها التي تعلمها واشنطن، وتعدها معرقلة لسير المباحثات.
وثانيهما حديثه عن إيفاده لوزير خارجيته إلى تل أبيب لإظهار دعمه القوي الثابت لأمن إسرائيل، ومواصلة الجهود المكثفة للتوصل إلى اتفاق، وكأن دعمه المطلق لإسرائيل الذي يعلمه القاصي والداني أصبح محل شك داخل إسرائيل على ما يبدو.
تصريحا بايدن هما في حقيقة الأمر رسائل مبطنة لإيران مفادها أن دعمها وتشجيعها لاستمرار ما تراه تعنتا من جناح الصقور داخل حماس تجاه المباحثات مع إسرائيل، وفي مقدمتهم -بالطبع- يحيي السنوار الرئيس الحالي للحركة، ستقابله زيادة حجم الدعم الأمريكي المقدم لنتنياهو وحكومته، وهو ما ظهر واضحا في التحركات العسكرية لعدد من قطع بحريتها العسكرية إلى البحر الأحمر ومنطقة الخليج، إلى جانب دفعها بعدد كبير من قياداتها العسكرية والدبلوماسية في رحلات مكوكية إلى العواصم الفاعلة في هذا الملف.
أما عقب انتهاء المباحثات فقد توالت ردود قيادات حركة حماس -التي خالفت في مجملها جميع التصريحات الإيجابية التي خرجت من الوسطاء الثلاثة -الولايات المتحدة الأمريكية، وقطر، ومصر- عن النتائج التي أفرزتها المباحثات، حيث صبت في اتجاه تحميل نتنياهو كامل المسؤولية عن إفشال جهود الوسطاء، وتعطيل التوصل إلى اتفاق، وهو نفس الموقف الذي انتهجته طهران.
اتساق المواقف بين حماس وطهران بدا واضحا بقوة في تصريحات القيادي في الحركة سامي أبو زهري الذي قال فيها إن ” الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وهم، لسنا أمام اتفاق أو مفاوضات حقيقية، بل نحن أمام فرض إملاءات أمريكية بإيعاز إسرائيلي”، وهي التصريحات التي جاءت متناسقة مع ما علق به الحرس الثوري الإيراني على سير المفاوضات، الذي اتهم واشنطن بالمشاركة في إبادة الشعب الفلسطيني، وما غرد به القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري كني على منصة “إكس”، مطالبا باستخدام كل الوسائل لإجبار الصهاينة على وقف جرائمهم في غزة، ومشيرا إلى أن بلاده لا تنظر إلى الولايات المتحدة كوسيط محايد، “بل هي شريك في الجرائم لكونها تقوم بتزويد إسرائيل بالأسلحة”، وهو تطابق يؤكد أن التنسيق بين طهران وحماس وصل إلى ذروته في هذا الملف.
وقد أعلنت حماس رفضها التام للشروط الجديدة التي تم إدراجها في الاتفاق المقترحة مناقشته في المفاوضات الرامية لوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن، مؤكدة أنها لن تقبل بأقل من وقف كامل لإطلاق النار وليس وقفا مؤقتا، مع الانسحاب تماما من غزة، وعودة جميع النازحين إلى مدنهم وقراهم، وصفقة تبادل دون شرط أو قيد، وهو ما يعد في حال حصوله تأكيدا على هزيمة إسرائيل الواضحة للعيان، وخروج حماس منتصرة انتصارا تاريخيا على دولة الاحتلال.
تنسيق أجبر -على ما يبدو- الأطراف الفاعلة في ملف المفاوضات بشأن غزة على الأخذ بعين الاعتبار ردّ إيران على ما سيتم الاتفاق عليه، وهو ما يعني اعترافا ضمنيا من جانب هذه الأطراف بأن الدور الإيراني في الملف الفلسطيني أكبر بكثير مما هو ظاهر للعيان فعليا.
ويعني كذلك أنه في سبيل نيل رضا طهران، والحرص على تحييد موقفها من إسرائيل بما يكفل ضمان الحفاظ على الحد الأدنى من الهدوء في المنطقة، يجب أن تخرج هذه المفاوضات بنتائج متوازنة يمكن بواسطتها إرضاء جميع الأطراف.
القاهرة من جانبها تعلم جيدا -مثلها في ذلك مثل بقية الوسطاء- حجم الدور الإيراني في الملف الفلسطيني، وقدرة الجمهورية الإسلامية على التأثير في حزب الله، وتوجيه دفة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية إيجابا أو سلبا، وفي هذا الإطار يمكن فهم الأسباب التي دفعت بوزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إلى شدّ الرحال والقيام بزيارة سريعة لكل من طهران وبيروت قبل جولة المفاوضات الثانية.
تدفع مصر إلى هذا التحرك رغبتها في وقف التصعيد، واستعادة ولو جزء من دورها التاريخي في القضية الفلسطينية، وهما هدفان لا يمكن تحقيقهما إلا عبر ضمان إيجابية مواقف كافة اللاعبين الفاعلين قبيل انطلاق جولة المفاوضات في القاهرة، وهو ما سعى إليه عبد العاطي خلال جولته المشار إليها.
هذا إلى جانب أن النتائج التي ستتمخض عنها هذه الجولة ستكون لها انعكاساتها ليس فقط على مسألة وقف إطلاق النار في غزة، ولكن أيضا على الحد من حالة الاحتقان والتصعيد، ووقف التهديدات بحرب شاملة في المنطقة، في ظل تعهد إيران بإمكانية الحد من حجم ردها على إسرائيل إذا ما أسفرت المفاوضات عن وقف لإطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
فهل يتخطى الوسطاء في اجتماعات القاهرة مرحلة عنق الزجاجة التي تمر بها المفاوضات، وينجحون في تأمين نوع من الاستقرار والهدوء للمنطقة، وإفشال مخطط نتنياهو الراغب بشدة في تفجير المنطقة وإشعال حرب شاملة، وإدخال العالم في نفق مظلم لا يعلم مداه إلا الله؟!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!