توران قشلاقجي - القدس العربي
يقول الأديب التركي نوري باكديل، المعروف بلقب «شاعر القدس»، الذي توفي عام 2019، وكأنه يصف حالنا المحزن اليوم أمام ما يجري في غزة ولبنان: «لم نتعب من السعي وكثرة العمل، بل تعبنا ونحن جالسين؛ تعبنا ونحن نبحث عن قليل من الشفقة، تعبنا بسبب الافتقار إلى ذرة من الإخلاص، وبسبب متابعة الناس ومراقبة الإنسانية». إننا نشهد اليوم، مثل شعوب العالم الأخرى، الوحشية والهمجية التي تجري في منطقتنا، بهذا التعب المؤلم.
كان شتيفان تسفايغ، أحد أشهر الكتاب والمثقفين اليهود في ألمانيا، الذي عُرف باطلاعه الوثيق على ذروة القيم التاريخية والثقافية للبشرية، ولكنه في الوقت نفسه شهد مدى السرعة التي يمكن أن تنهار فيها تلك القيم، خاصة أن الحربين العالميتين اللتين اندلعتا في بداية القرن العشرين، لم تدمرا المعالم السياسية والاجتماعية فحسب، بل دمرتا أيضا أرواح الأفراد. يعبر تسفايغ في كتبه عن حنينه إلى ماضي أوروبا، ويحمل في قلبه حزنا عميقا تجاه تلك الفترة. ويوضح في رواية سيرته الذاتية «عالم الأمس»، مدى سرعة انهيار الفترة التي وصفت بـ»العصر الذهبي» للبشرية، ويكشف كيف اختفت وزالت الروابط الثقافية والقيم الفكرية.
تتسم كتب تسفايغ بكآبة عميقة، إذ يعتقد أن العصر الذي كانت فيه أوروبا مركزاً للأفكار العظيمة والثروات الثقافية قد انهار واختفى إلى الأبد. فقد سُحق الناس تحت وطأة الدمار الذي جلبته الحروب والأيديولوجيات، وعمّ الفساد الاجتماعي في البلدان. ويعبر تسفايغ بشكل متكرر في كتاباته عن اليأس والعزلة التي يشعر بها أمام هذا الانهيار. وفي النهاية، قرر الانتحار مع زوجته في البرازيل لعدم قدرته على تحمل هذا العبء الثقيل لفترة أطول. كان يرى أنه لم يعد هناك خلاص للبشرية بعد الآن، فالعالم ينجرف نحو نهاية لا رجعة فيها. لكن على الرغم من أن هذا اليأس الذي شعر به تسفايغ في ذلك الوقت كان هو المزاج العام للإنسانية، إلا أنه ليس سوى تراجع مؤقت في المنظور الواسع للتاريخ.
صحيح أن الحروب العالمية تسببت في فقدان ملايين الأرواح وألحقت دمارا ثقافيا واجتماعيا هائلا، إلا أن الإنسانية لم تنته، ولم تدمّر بالكامل أبدا، وعلى الرغم من آلام الحروب وظلامها، تمكن الناس من التعافي واستعادة الأمل من جديد، وحتى بعد انتحار تسفايغ استطاعت الإنسانية، كما العنقاء التي تنبعث من الرماد، أن تتمسك مجددا بالحياة. وعلى الرغم من الفترة المظلمة التي مرّ بها تسفايغ، إلا أن العالم لا يزال قائما والحياة مستمرة. فعندما ننظر إلى تاريخ العالم، يمكننا أن نرى أنه بعد كل كارثة، هناك مرحلة ولادة جديدة ومرحلة من التعافي.
وبينما يخبرنا القرآن الكريم عن الظلم الذي وقع في قصة «أصحاب الأخدود»، فإنه يبشرنا أيضا بانتصار المظلومين في نهاية المطاف. لقد واجهت البشرية الموت والدمار مرات لا تحصى عبر التاريخ، لكنها تمكنت من التغلب على التحديات في كل مرة. حتما لا يمكن محو الآثار التي تخلفها الحروب والإبادة الجماعية والأزمات، لكن الطبيعة البشرية تتمتع دائما بالقدرة على إيجاد المخرج ورؤية ضوء الأمل.
كلمات تولستوي التالية تلخص هذا الوضع بشكل أفضل: «يمكنك أن تظلم شخصا بقدر ما تريد، وتجعله يعاني بقدر ما تريد، ولكنك ستظل تجد في داخله بذرة خير مشرقة». عندما تزرع بذرة الخير تلك على الأرض وتسقى بدماء الشهداء، فإنها تبشر بقدوم ربيع جديد. يؤمن تولستوي بأن البشر يحملون الخير في جوهرهم وأن هذا الخير سيجد طريقه حتى في اللحظات المظلمة. وهذه النظرة المفعمة بالأمل، والتي تقف في وجه التشاؤم العميق الذي عاشه تسفايغ، هي بمثابة ملخّص لتاريخ البشرية.
خلاصة القول؛ ربما كانت الظلمة التي عاشها وراقبها تسفايغ من أصعب اللحظات في تاريخ البشرية، ولكن حتى في ذلك الوقت، استمر الأمل في الوجود، وتمكنت الإنسانية من التعافي بعد كل دمار كبير حل بها ونجحت في بناء مستقبل أفضل بها. إن «نهاية العالم» لم تحن بعد لأن الطبيعة البشرية لا تزال تتمتع بالأمل وتسعى وراء الخير وتتمسك بالحياة رغم الصعاب؛ يكفي أن يجتمع الناس الطيبون الذين يشكلون الغالبية العظمى، ويتمكنوا من اتخاذ خطوات جريئة من أجل المستقبل الجديد. والآن يجب أن تمنح غزة ولبنان عالم الشرق فرصة الاستيقاظ والتحول إلى قوة عادلة جديدة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس