ترك برس
في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شهدت الدولة العثمانية دخول الصهيونية إلى دوائرها السياسية والاجتماعية، حيث حاول قادتها التغلغل في بلاط السلطان عبد الحميد الثاني. على الرغم من مقاومة السلطان لمحاولات ثيودور هرتزل للحصول على أراضٍ للاستيطان اليهودي، إلا أن بعض المثقفين والسياسيين المنتمين إلى حزب الاتحاد والترقي فتحوا الأبواب للصهيونية تحت شعارات مثل "الحرية والمساواة".
أسهم هؤلاء في ترويج فكرة أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين ستدعم الاقتصاد العثماني، مما أتاح للصهاينة فرصة للتأثير على السياسات المحلية وتقديم أنفسهم كحلول للأزمات الاقتصادية. ومع مرور الوقت، استغل الصهاينة هذه العلاقات ليعززوا وجودهم في الأراضي العثمانية، مما ترك آثارًا عميقة على مستقبل فلسطين.
في مقال له حول الموضوع، أشار الكاتب والإعلامي التركي توران قشلاقجي، أن "ما يحدث في غزة اليوم يشبه كثيرا ما قام به أصحاب الأخدود، الذين يرد ذكرهم في سورة البروج، حيث ألقوا المؤمنين في النار وهم أحياء!".
وأضاف قشلاقجي في مقال بصحيفة القدس العربي: "كلنا نشهد لحظات استشهاد أهل غزة يوميا على شاشات التلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعي. يكتفي الجميع بالتفرج على الأحداث المأساوية، من العلماء إلى المثقفين، ومن منظمات المجتمع المدني إلى الدول الإسلامية والعربية، لكن كل طرف يحاول تجاهلها باختلاق أعذار مختلفة. والشيء الوحيد الذي يبعث على التفاؤل وسط كل هذا التشاؤم هو أن معظم شعوب العالم متحدة من أجل فلسطين".
وجاء في المقال:
عندما بدأت الصهيونية تكتسب القوة في جميع أنحاء العالم، ألقى قادتها رحالهم واستقروا في إسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية، حاملين معهم أموالا طائلة وحكايات مؤثرة، وسرعان ما تمكنوا من التأثير على السياسيين والكتّاب، من خلال ألاعيب متنوعة، ثم نشروا قصص المظالم التي واجهها اليهود في أوروبا وروسيا عبر خلق صورة «الشعب المضطهد» في الصحافة العثمانية، ومارسوا حيلا متعددة للاستقرار في الأراضي العثمانية.
وكان أبو الضياء توفيق، أول من طرح خطر الصهيونية للنقاش في الصحافة العثمانية آنذاك، وعرضها على الرأي العام بهدف التحذير منها. وقد ألّف كتابا حول هذا الموضوع، وذهب إلى حد القول إن هناك صهاينة حتى داخل القصر. السلطان العثماني الثاني عبد الحميد، كان يتمتع بالقوة في تلك الفترة، وأغلق الأبواب أمام ثيودور هرتزل، الذي زار إسطنبول خمس مرات بين عامي 1896 و1902، ورفض مطالب الصهاينة بشأن الحصول على مساحات من الأراضي. وعلى الرغم من أن هرتزل قدم للسلطان عرضا لحل مشكلة ديون الدولة العثمانية، عن طريق ممولين يهود في أوروبا، إلا أن عبد الحميد الثاني لم يُبدِ اهتماما بهذا العرض.
إلا أن بعض المثقفين والسياسيين المنتمين إلى حزب الاتحاد والترقي، أفسحوا بسذاجة المجال أمام الصهيونية، تحت تأثير شعارات «الحرية والمساواة والأخوة»، وتبنى المثقفون الوضعيون المّيالون للغرب مثل، رضا توفيق وجلال نوري فكرة الصهيونية، بل ذهبوا بعيدا إلى حد القول: «أنا صهيوني أيضا». كان لدى رضا توفيق، معرفة جيدة بالتاريخ اليهودي واللغة العبرية، وأعلن لاحقا أنه صهيوني خلال خطاب ألقاه أمام جمعية الشباب اليهود في إسطنبول يوم 11 مارس/آذار 1909، وبدأ يزعم هو الآخر بأن فلسطين هي بلد اليهود.
وبعد انتهاء حقبة السلطان عبد الحميد، أسس حسين حلمي باشا، أحد السياسيين في حزب الاتحاد والترقي، علاقات لافتة للنظر أيضا مع الصهاينة، فقد وعد نسيم روسو وحاييم ناحوم بتمهيد الطريق أمام اليهود للاستيطان في فلسطين. وبالفعل، أفسح المجال لاحقا أمام الاستعمار اليهودي، من خلال إلغاء القيود التي فرضها السلطان عبد الحميد، فبدأ اليهود على إثر ذلك في دخول الأراضي العثمانية بجوازات سفر بريطانية.
أما الصهاينة الذين لم يتمكنوا من إصدار تأشيرات دخول إلى فلسطين، فإنهم حصلوا على تصاريح مصرفية من الباب العالي. ولجأ فيكتور جاكوبسون، الذي تم تعيينه مديرا لشركة أنجلو ليفانتين المصرفية المساهمة في إسطنبول، إلى تمويل بعض الصحافيين سرا من أجل كسب الرأي العام. أما جلال نوري، فقد أصدر جريدة «Le Jeune Turc» بدعم من الصهاينة، وكتب عبرها مقالات لصالح الصهيونية، ودافع عن فوائد الاستعمار اليهودي مقابل ألف جنيه سنويا.
في السنوات اللاحقة، اعتذر رضا توفيق للسلطان عبد الحميد، في قصيدة طويلة، قال فيها: «لم تكن أنت المجنون، بل تبيّن أننا نحن المجانين/ تبيّن أننا علّقنا أحلاما على خيط مهترئ»، واعترف بأنه كان مخطئا بشأن الصهيونية، ولكن بعد فوات الأوان، وكذلك أدرك حسين حلمي باشا أن قراراته كانت خاطئة، ولكنه اتخذ خطوات لا رجعة فيها. في البداية، أيد أعضاء حزب الاتحاد والترقي الهجرة اليهودية إلى فلسطين، معتقدين أنها ستساهم في دعم الاقتصاد العثمانية من الناحية المالية، لكن مع بدء فقدان أراضي الإمبراطورية، تخلوا عن هذا النهج وعادوا إلى سياسات السلطان عبد الحميد الثاني.
ختاما؛ أعتقد أن الجانب الأكثر إيلاما في هذه القصة بلا شك هو أن أبناء هؤلاء الكتّاب والسياسيين الذين وقعوا في فخ الصهيونية، إما أصبحوا مسيحيين، أو قطعوا علاقتهم بالإسلام تماما واختفوا في صفحات التاريخ المغبرة. ألا يحتضن العالم الإسلامي والعربي في يومنا الحالي العديد من الصهاينة السريين الذين لا يتعاطفون بشكل علني مع إسرائيل ولكنهم حتما سيدعمون الصهيونية إذا أتيحت لهم الفرصة؟ بالطبع هناك الكثير… ولكن التاريخ سوف يأخذهم بالتأكيد إلى صفحاته المغبرة وسيتجاهلهم أيضا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!