أرسين جليك - يني شفق
قبل أن أسافر إلى الأندلس في العام الماضي، قرأت بعضًا من التاريخ وتوقفت عند تاريخين معروفين لدى الجميع. الأول: سقوط آخر دولة إسلامية في الأندلس، وهي سلطنة غرناطة، عام 1492. والثاني: فتح القسطنطينية عام 1453.
عندما انتهى الحُكم الإسلامي في أوروبا والذي استمر لثمانية قرون، كان المسلمون في الأناضول قد بدأوا عصرًا جديدًا. أي أن هناك 49 عامًا تفصل بين سقوط غرناطة وفتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح. فتحت إسطنبول وانهارت الإمبراطورية البيزنطية، وتوجهت جيوش العثمانيين بقيادة السلطان السلطان بايزيد الثاني حينها نحو حدود المجر لتوسيع حدود دولتهم. وفي تلك الفترة، هاجم المماليك حماة الخلافة، الدولةَ العثمانية.
لقد رأينا جليًا خلال الإبادة الجماعية في غزة، أن إسرائيل تستمد قوتها من تفرق الدول والشعوب الإسلامية لتواصل ارتكاب أبشع الجرائم في العصر الحديث. وكثيراً ما سمعنا وقلنا هذا العام: "لو كان للمسلمين قائد، لما وصلنا إلى هذا الحال."
فهل هذا صحيح حقاً؟ هل غياب الخليفة الذي يوحد المسلمين هو العائق الوحيد أمام وقف العدوان الإسرائيلي ومنع الظلم؟
وفي برنامج استعرضنا فيه أحداث الإبادة الجماعية في غزة على مدار العام الماضي، أجاب الأستاذ محمد غورماز على سؤال حول دور الخلافة في توحيد الأمة الإسلامية بإجابة تاريخية عميقة، حيث قال: "حتى عندما كانت لدينا خلافة، تعرضنا لجميع هذه الأحداث المؤلمة. فعنما دخل الصليبيون القدس، كان لدينا ثلاثة خلفاء في بغداد والقاهرة والأندلس، أي أننا كنا منقسمين بسبب الخلافة. هذه مسألة تتعلق بوحدة الأمة، وليس مجرد وجود أو عدم وجود حاكم. فربط ضعفنا بغياب خليفة واحد يخالف سنة الله ولا يعكس الواقع."
لقد مر عام على مجزرة غزة، وانتقلت وحشية إسرائيل إلى لبنان. وهي الآن تخوض صراعًا مع إيران من جهة، وتشن هجمات على دمشق من جهة أخرى. وإذا أضفنا اليمن، فسنجد أن خمس دول ذات أغلبية مسلمة تتعرض للوحشية الصهيونية. وفي المقابل اجتمعت منظمة التعاون الإسلامي، التي تضم 57 دولة، مرة واحدة في مايو 2024 أثناء وقوع الإبادة الجماعية، واكتفت بإصدار بيان إدانة.
أما عن سبب إشارتي لكل هذه الأمور، فقد عُقد مؤخراً في أنقرة مؤتمر بعنوان "مستقبل فلسطين" بتنظيم من حزب العدالة والتنمية. وقد تابعت المداخلات باهتمام ودونت ملاحظاتي.
وخلال الجلسة الثنائية بين وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره الأردني أيمن الصفدي، أُثيرت نقاط مهمة. كما عرض مدير الجلسة، نائب الرئيس التركي السابق فؤاد أقطاي، في تقديمه خريطة تظهر جنون إسرائيل المتعلق بـ"أرض الميعاد"، مؤكداً بذلك مجدداً الخطر الذي يقترب من حدودنا.
كما شارك الرئيس أردوغان وأدلى بكلمة مهمة قال فيها: "لا تقلقوا، فسيأتي يوم تتوقف فيه الدموع والأوجاع، وستقوم أمهات غزة بتحضير جهاز عرس لأبنائهن بدلًا من الأكفان". وقد لاقت هذه الكلمات استحسانًا كبيرًا وتصفيقًا حارًا من قبل الحضور، حتى أن البعض بكى تأثرًا. فكلماته تمنح الأمان وتعد بمستقبل أفضل. ولكن، ما هي الأسس التي يبنى عليها ذلك؟
كنت حاضرًا في القاعة، وقد قضيت العام الماضي أتابع أخبار وأكتب وأتحدث عنها كل يوم تقريبا، وشاركت في عدد لا يحصى من الفعاليات لدعم القضية الفلسطينية. وبصراحة، مع علمي بأن كل ما يمكن قوله عن الإبادة الجماعية قد قيل بالفعل، كان هناك سؤال يدور في أذهان الجميع لا محالة: "ما الفائدة من الحديث عن مستقبل فلسطين بينما يستمر الإبادة الجماعية ولا توجد إرادة قادرة على وقف إسرائيل؟ ما فائدة هذه النقاشات؟ وما النتائج التي يمكن أن تحققه؟"
إلا أنني وجدت إجابة لهذا السؤال المحير من خلال ملاحظة ردود فعل الحضور الذين حضروا جميع الجلسات، فقد كان جميع المدعوين، سواء كانوا مسلمين أم لا، يستمعون بجدية إلى المتحدثين، وخاصة الضيوف القادمين من خارج تركيا. كان هناك 91 ممثلاً دبلوماسيًا من مختلف دول العالم، من بينهم 38 سفيراً، يشاركون في مناقشة مستقبل فلسطين.
أما عن الإجابة التي توصلت إليها، فقد شارك أستاذ العلوم السياسية قدرت بلبل في المساء تعليقًا من أحد المشاركين من السويد في مجموعتنا على واتساب، قال فيه: "مثل هذه المؤتمرات تمثل لنا بصيص أمل، وطريقًا للخروج، بل تكاد تكون نوعًا من العلاج النفسي. لأنه خارج تركيا، لا توجد أي دولة أوروبية توفر لنا بيئة كهذه لمناقشة القضية الفلسطينية بهذه الطريقة.
أودّ أن أشارككم معلومة أخرى، في المؤتمر ألقى جميع المتحدثين كلماتهم باللغة الإنجليزية. وبُثّ المؤتمر كاملاً عبر الإنترنت بثلاث لغات: التركية والعربية والإنجليزية. وكشفت البيانات التحليلية على مدار اليوم أن أعلى نسبة مشاهدة وأطول مدة متابعة جاءت من إيران ولبنان وفلسطين. وهذه نتيجة تحليلية بالغة الأهمية.
وخلاصة هذا المقال هي: إن اهتمام المشاركين في مؤتمر "مستقبل فلسطين"، والتعليق الذي أدلى به المتابع القادم من السويد حول الدور الذي يسند إلى تركيا، وكذلك خريطة متابعة البث، كلها تشير إلى ضرورة التقاء المسلمين على أساس سليم، وبناء فكر جماعي مشترك، واتخاذ خطوات استراتيجية حاسمة، لتحديد مستقبل فلسطين، نحن بحاجة إلى أرضية متينة ضد إسرائيل، وراع قوي يجمع الأطراف ويوحد الجهود، وغرفة فكرية استراتيجية. وهذا هو الدور الذي تلعبه تركيا.
إن التوقعات والدعوات لتحقيق نتيجة حاسمة وسريعة لإيقاف الإبادة الجماعية وهزيمة إسرائيل هي ما نطمح إليه جميعاً. ولكن الوقوع في فخ الاستسلام لفكرة "لو كان لدينا خليفة أو قائد لما كان هذا حالنا" يعني القبول المسبق بعدم القدرة على تحقيق أي تقدم في مواجهة إسرائيل سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الشعوب المسلمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس