د. علي محمد الصلّابي - خاص ترك برس

 استنفر صلاح الدين المسلمين ، وأمراءهم للجهاد في سبيل الله، ووقف ـ رحمه الله ـ بجموع المسلمين يكرُّون على الأعداء ، والحرب بينه وبين الصَّليبيين سجال ، كلَّما دمَّر لم كتيبة؛ استبدلوا بها كتائب ، وأوروبا هناك تقف وراء جيوشها تدعمها ، وتمدُّها بالمال ، والسُّفن ، والرِّجال في كلِّ حين ، والحقد على المسلمين يملأ قلبها. ولما اشتدَّ الحصار على عكَّا؛ أصبح همُّ صلاح الدين الكبير أن يمدَّ المحاصرين بالمال، والنَّفط ، والرِّجال؛ لأنَّ إمدادات الصليبيين للصليبيين تصل إليهم بسهولة ، وإمدادات المسلمين للمسلمين المحاصرين لا تصل إلا بصعوبةٍ شديدةٍ ، فلم تبق حيلة ، أو خدعة حربيةٌ يفكر بها القادة؛ إلا وقد استخدمها صلاح الدين الأيوبي. ومن هذه الحيل:

أ ـ اختراق الحصار البحري على عكَّا: كان صلاح الدين رحمه الله قد أعدَّ ببيروت بطسةً ، وعمَّرها ، وأودعها أربعمئة غِراره من القمح ، ووضع فيها من الجُبْن ، والبصل ، والغنم ، وغير ذلك من الميرة ، وكان الفرنج قد أداروا مراكبهم حول عكَّا ، حراسةً لها عن أن يدخلها مركب للمسلمين ، وكان قد اشتدَّت حاجة من فيها إلى الطَّعام ، والميرة ، فركب في بطسة بيروت جماعةٌ من المسلمين ، وتزيَّوا بزيِّ الفرنج ، حتى حلقوا لحاهم ، ووضعوا الخنازير على سطح البطسة ، بحيث تُرى من بُعد ، وعَلَّقوا الصُّلبان ، وجاؤوا قاصدي البلد من البُعد ، حتى خالطوا مراكب العدو ، فخرجوا إليهم ، واعترضوهم من الحَرَّاقات ، والشَّواني ، وقالوا لهم: نراكم قاصدين البلد، واعتقدوا: أنهم منهم فقالوا: أَوَ لم تكونوا أخذتم البلد؟ فقالوا: لا لم نأخذ البلد بعد. فقالوا: نحن نردُّ القلوع إلى العسكر ، ووراءنا بطسة أخرى في هوائها ، فأنذروهم؛ حتى لا يدخلوا البلد ، وكان وراءهم بطسة فرنجية قد اتفقت معهم في البحر قاصدين العسكر ، فنظروا ، فرأوها ، فقصدوها؛ لينذروها ، فاشتدَّت البطسة الإسلامية في السَّير ، واستقامت لها الريح؛ حتى دخلت ميناء البلد ، ولله الحمد ، وكانت فرجاً عظيماً ، فإنَّ الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد مأخذها (كتاب الروضتين، م4/ص154).

وفي العشر الأوسط من شعبان كتب بهاء الدين قَرَقُوش وهو والي البلد ، والمقدَّم على الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ يذكران للسلطان: أنه لم يبق بالبلد ميرةٌ إلا قدر ما يكفي البلد إلى ليلة النِّصف من شعبان لا غير ، فأسَرَّها يوسف في نفسه ، ولم يُبْدها لخاصٍّ ، ولا عامِّ ، خشية الشيُّوع ، والبلوغ إلى العدوِّ ، وتضعف به قلوب المسلمين ، وكان قد كتب إلى مصر بتجهيز ثلاث بطس مشحونة بالأقوات ، والإدام ، والمير ، وجميع ما يحتاج إليه في الحصار ، بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاء ، فأقلعت البطس الثلاث من الديار المصرية ، وولجَت في البحر تتوخَّى النوتية بها الريح التي تحملها إلى عكَّا ، فطابت لهم الريح حتى ساروا ، ووصلوا إلى عكَّا ليلة النصف من شعبان ، وقد فنيت الأزواد ، ولم يبق عندهم ما يطعمون الناس في ذلك اليوم ، وخرج عليها أسطول العدوُّ يقاتلها ، والعساكر الإسلاميَّة تشاهد ذلك من السَّاحل؛ والناس في تهليلٍ وتكبير.

 

 

وقد كشف المسلمون رؤوسهم يبتهلون إلى الله تعالى في القضاء بسلامتها إلى البلد ، والسلطان على السَّاحل كالوالدة الثَّكلى يشاهد القتال ، ويدعو رَبَّه بنصره ، وقد علم من شدَّة القوم ما لم يعلمه غيره ، وفي قلبه ما في قلبه ، والله يثبته، ولم يزل القتال يعمل حول البطس من كلِّ جانب ، والله يدفع عنها ، والريح تشتدُّ ، والأصوات قد ارتفعت من الطائفتين ، والدُّعاء يخرق الجُحُب ، حتى وصلوا بحمد الله سالمين إلى ميناء البلد ، وتلقَّاهم أهل عكَّا تلقي الأمطار عن جَدْب.

ب ـ عيسى العوَّام يخترق الحصار: ومن نوادر القتال على عكَّا: أن عَوَّاماً مسلماً كان يُقال له: عيسى ، كان يدخل البلد بالكُتُب ، والنَّفقات على وسطه ليلاً على غِرَّةِ من العدوِّ ، وكان يغوص ، ويخرج من الجانب الاخر من مراكب العدو ، وكان ذاتَ ليلةِ شَدَّ على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار ، وكُتبٌ للعسكر ، وعام في البحر فجرى عليه أمرٌ أهلكه ، وأبطأ خبره ـ عن المسلمين ـ وكانت عادته إذا دخل البلد طار طائر عرف المسلمون بوصوله ، فأبطأ الطائر ، فاستشعر هلاكه ، فلما كان بعد أيام بينا النَّاس على طرف البحر في البلد؛ وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً ، فافتقدوه ، فوجدوه عيسى العَوَّام ، ووجدوا على وسطه الذَّهب ، ومُشمَّع الكُتب ، وكان الذهب نفقةً للمجاهدين ، فما رُئي من أدَّى الأمانة في حال حياته ، وقدَّر الله له أداءها بعد وفاته إلا هذا الرَّجل( كتاب الروضتين، سابق، م40، ص160).

قال العماد: فَعُدِمَ ـ يعني: عيسى ـ ولم يُسمع له خبر ، ولم يظهر له أثر ، فَظُنَّتْ به الظُّنون ، وما تيقَّنت المنو، وكانت له لا شك عند الله منزلة ، فلم يرد أن تبقى حاله وهي مجملة محتملة، فوجد في عكا ميتاً ، قد رماه البحر إلى ساحلها ، وبرَّأه الله ممَّا قالوا ، فذهب حقُّ اليقين من الظنُّون بباطلها.

ج ـ استهداف المسلمين الات الحصار ، وأدوات الدفاع: اشتدَّ طمع الصليبيين على عكا ، ونصبوا المنجنيقات من كلِّ جانب ، وتناوبوا على رمي البلد بها ليلاً ، ونهاراً ، ولما رأى مَنْ بداخل عكا من المسلمين ما تُلحقه تلك المنجنيقات بهم من الضَّرر؛ حرَّكتهم النخوة الإسلامية ، وعزموا على فتح أبواب المدينة، ومهاجمة الصَّليبيين خارجها ، ففعلوا ذلك ، وخرجوا دفعةً واحدةً من كلِّ جانب، وهاجم المسلمون الصليبيين في

 خيامهم، فاشتغلوا بحماية خيامهم، وتركوا المنجنيقات، فصوِّبت إليها شهب الزراقين، واشتعلت فيها النيران، وأحرقت عن اخرها( النوادر السلطانية، ص164).

د ـ محاصرة الصليبيين لبرج الذبان: وفي شعبان من نفس السنة 586 هـ حاصر الصَّليبيون برج الذبان؛ الذي وصفه ابن شدَّاد بأنه برج في وسط البحر مبني على الصَّخر على باب ميناء عكَّا لحراسة الميناء؛ لأنَّ المركب متى عبره أمن غائلة العدو ، كما أنَّ الاستيلاء عليها يجعل الميناء تحت سيطرتهم ، فيمنعون السُّفن المحملة بالميرة من الوصول إلى البلد ، وأحضر الصليبيون سفناً جعلوا على صواريها برجاً عالياً ملؤوه بالحطب ، والنفط ، على أن يسيِّروها ، وقتل مَنْ عليه من الجنود ، وعبَّوا سفينة ثانية ملؤوهاحطباً ووقوداً على أن يدفعوها إلى أن تدخل بين سفن المسلمين ، ثم يشعلوا النيران منها إلى سفن المسلمين ، فتحرقها مع ما فيها من المير ، كما شحنوا سفينة ثالثةً بالجنود ، وجعلوا عليها حاجزاً على هيئة قبو يمنع عنهم سهام المسلمين ، فإذا أحرقوا ما أرادوا إحراقه؛ دخلوا ذلك القبو.

وبالرَّغم من أن تجاه الرياح كان بادىء الأمر يسير على ما يريدون ، فإنَّ قدرة الله شاءت بعد أن أشعلوا النار في البرج الذي أقاموه على صواري السُّفن ، وكذلك السفينة التي كانوا يزمعون إرسالها بين سفن المسلمين أن انعكس اتجاه الرِّيح عليهم ، فاحترقت سفنهم الأولى التي عليها البرج ، وكذلك الثانية ، ثم امتدَّت النيران التي بها الجنود ، وعليهم القبو ، فانزعج من بداخلها من الصَّلبيين ، ولم يستطيعوا الخروج من القبو ، فهلكوا جميعاً.

وبالرغم من تلك الكارثة التي حلت بالصَّليبيين عند محاولتهم الاستيلاء على برج الذبان ، فإنهم لم ينقطع أملهم في أخذ ذلك البرج ، حيث عادوا مرَّةً أخرى ، ووضعوا الة عظيمة على هيئة دبابة لها رأس عظيم برقبة شديدة من الحديد تسمى: كبشاً ، ينطح بها السور ، فتهدمه بتكرار نطحها ، كما استخدموا الةً أخرى هي عبارة عن قبو فيه عدد من الجنود ورأسه محدَّد على شكل السكة؛ التي تستخدم في الحرث تسمى: سنوراً ، فرأس الكبش مدور يهدم بثقله ، ورأس السنور يهدم بحدَّته. كما استخدموا أيضاً الستائر ، والسلاليم الكبار الهائلة ، وأعدُّوا في البرح سفينةً عظيمة أقاموا بها برجاً إذا أرادوا قلبه على السُّور؛ انقلب بالحركات ، ويبقي طريقاً إلى المكان الذي ينقلب عليه ، فتمشي عليه المقاتلة ، وعزموا على تقريبه من برج الذبان ، فيأخذوه.

ولما اكتملت استعداداتهم شرعوا في الزَّحف على البلد ، ومقاتلته من كلِّ جانب ، وهم في خلقٍ لا يُحصى ، وأهملهم المسلمون بادىء الأمر؛ حتى نشبت مخاليب أطماعهم في عكَّا ، وصحبوا الاتهم تلك ، وقرَّبوها من الأسوار ، وعندما أصبحوا على تلك الحالة ، صاح المسلمون عليهم صيحةً واحدة ، وفتحوا الأبواب ، وباعوا أنفسهم لخالقها ، وباريها كما يقول المؤرح ابن شدَّاد ، وهجموا على العدو من كلِّ جانب ، وكبسوه في الخنادق ، ولما رأوا ما نزل بالصليبيين من الخذلان ، والهزيمة؛ هجموا على كبشهم فألقوا فيه النار والنفط ، وتمكَّنوا من إحراقه ، وهرب المقاتلة منه ، ثم سرت النار كذلك في السنور ، وأحرقته ، ثم علَّق المسلمون في الكبش الكلاليب الحديدية ، وسحبوه ، وهو يشتعل حتى حصلوه عندهم في البلد وكان هذا الكبش يتألف من عدد من الالات وألقي عليه الماء حتى برد حديده بعد أيام، وكان هذا في رمضان من سنة 586 هـ/أكتوبر 1190 م(صلاح الدين والصليبيون، ص261).

هـ ـ سيطرة المسلمين على الموقف: وممَّا مضى يظهر لنا مدى سيطرة المسلمين على الموقف ، وكذلك مدى ما وصل إليه الصليبيون من الهلع ، والخوف؛ حيث لم يكتف المسلمون بإلحاق الضرر بالات الصليبيين ، بل عمدوا إلى الاستفادة منها في جهادهم لتصفيتهم ، ولما كان يوم الأربعاء منتصف شهر رمضان خرج المسلمون على ظهور سفنهم، وباغتوا تلك السَّفينة الصليبية التي كانت قد أعدت لأخذ برج الذبان ، فضربوها بقوارير النفط ، وباءت محاولة الصَّليبيين لأخذ البرج بالفشل الذريع.

و ـ شجاعة فائقة: وفي جمادى الأولى من سنة 587 هـ/يونيه 1191 م هاجم الصَّليبيون سفينةً إسلامية كانت قد سُيِّرت من بيروت بعد شحنها بالالات ، والأسلحة ، والمير ، والرِّجال ، وكان مقدَّمهم رجلاً شجاعاً ، فما أن رأى إمارات الغلبة عليهم حتى أشار على أصحابه بإغراق سفينتهم بأيديهم؛ لئلا يتمكَّن العدو من الظفر بها ، فوقعوا في جوانبها بالمعاول حتى دخل الماء إليها ، فغرقت ، وغرق جميع ما فيها من الالات ، والمير ، ولم يظفر العدوُّ بشيءٍ منها

ز ـ هجوم إسلامي على دبابةٍ عظيمةٍ مكوَّنةٍ من أربع طبقات: عزم المسلمون الذين كانوا داخل عكَّا على مهاجمة الصَّليبيين ،وتكبيدهم خسائر أكثر؛لكي

 يثبتوا لهم: أنَّ غرق السفينة لم يؤثر عليهم ، وحدث في ذلك الوقت أن اصطنع العدوُّ دبابةً عظيمةً هائلةً مكو نةً من أربع طبقات ، الطبقة الأولى من الخشب ، والثانية من الرَّصاص ، والثالثة من الحديد ، والرَّابعة من النُّحاس ، وكان ارتفاعها أكثر من ارتفاع السُّور ، وشحنوها بالمقاتلة، وقرَّبوها من السُّور لمهاجمة المسلمين في الداخل ، إلا أنَّ المسلمين بادروا بضربها بالنَّفط، واستمرَّ ضربهم ليلاً ، ونهاراً حتى تمكَّنوا من إشعال النار فيها ، وإحراقها(صلاح الدين، علي الصلابي، ص491).

وعلى الرغم من تلك الخسائر التي ألحقها المسلمون بالصليبيين؛ فإن الغرب الأوروبي لم تنقطع امداداته عن الصليبيين ببلاد الشام ، الأمر الذي مكَّن الصليبيين من مواصلة حصارهم لعكَّا ، ففي الوقت الذي كان صلاح الدين فيه قد حقَّق انتصاراتٍ عظيمةً على الصليبيين سواء في المعارك ، أو في تحطيم الاتهم ، وأدواتهم وصل إلى المشرق الإسلامي أعظمُ ملوك أوروبا في ذلك الحين ، وهما: الملك فيليب أغسطس ملك فرنسا ، وريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا ، الَّلذين سلكا طريق البحر إلى هناك ، ولا شكَّ: أنه كان لوصولهما أثره البالغ في رفع الرُّوح المعنوية للصَّليبيين.

ح ـ إخراج عسكر عكَّا ، وإدخال البدل عنهم إليها: ولمَّا هجم الشتاء ، وهاج البحر ، وأُمِنَ العدوُّ من أن يضرب مصافَّ ، وأن يبالغ في طلب البلد ، وحصاره من شدَّة الأمطار ، وتواترها؛ أذن السلطان للعساكر في العود إلى بلادها؛ ليأخذوا نصيباً من الرَّاحة.... ولم يبق عند السلطان إلا نفرٌ يسير من الأمراء ، والحَلْقة الخاصَّة، واشتغل السُّلطان بإدخال البَدَل إلى عكَّا ، وحمل المِيَر ، والذخائر ، وإخراج من كان بها من الأمراء لعظم شكايتهَم من طول المقام بها ، ومعاناة التَّعب ، والسَّهر ، وملازمة القتال ليلاً ، ونهاراً ، وكان مُقَدَّم البَدَل الدَّاخل من الأمراء سيف الدِّين المشطوب ، دخل في سادس عشر المحر م سنة سبع ، وفي ذلك اليوم خرج المقَدَّم الذي كان بها، وهو الأمير حسام الدين أبو الهيجاء وأصحابه، ومن كان بها من الأمراء ، ودخل مع المشطوب خَلْقٌ من الأمراء ، وأعيان من الخلق ، وتقدَّم إلى كلِّ من دخل أن يصحب معه ميرة سنةٍ كاملة( كتاب الروضتين (4/232).

ط ـ بلاء عظيم على المسلمين: انتقل الملك العادل بعسكره إلى حيفا على شاطىء النَّهر ، وهو الموضع الذي تُحَمَّلُ منه المراكب ، وتدخل إلى البلد ، وإذا خرجت؛ تخرج إليه ، فأقام ثَمَّ صار يحثُّ الناس على الدخُّول ، ويحرس المير ، والذَّخائر؛ لئلا يتطرَّق إليها من العدو مَنْ يتعرَّضها ، وكان مما دخل إليها سبع بطس مملؤة ميرةً ، وذخائر ، ونفقات ، كانت وصلت من مصر ، وكان دخولها يوم الإثنين ثاني ذي الحجة ، فانكسر منها مركب على الصَّخر الذي هو قريب من الميناء ، فانقلب كل من في البلد من المقاتلة إلى جانب البحر لتلقِّي البطس ، وأخذ ما فيها ، ولما علم العدو انقلاب المقاتلة إلى جانب البحر؛ اجتمعوا في خلْقِ عظيمٍ ، وزحفوا على البلد من جانب البَرِّ زحفةً عظيمةً ، وقاربوا الأسوار ، وصَعِدوا في سُلَّم واحد ، فاندق بهم السُّلمَّ كما شاء الله تعالى، وأدركهم أهل البلد ، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً ، وعادوا خائبين خاسرين.

وأما البطس؛ فإنَّ البحر هاج هيجاناً عظيماً ، وضرب بعضها ببعض على الصَّخر ، فهلكت، وهلك جميع ما كان فيها ، وهلك فيها خلقٌ عظيم ، قيل: كان عددهم ستين نفراً ، وكان فيها ميرةٌ عظيمةٌ ، لو سلمت؛ لكفت البلد سنةً كاملةً ، ودخل على المسلمين من ذلك وهنٌ عظيمٌ ، وحَرِجَ السُّلطان لذلك حرجاً شديداً ، وكان ذلك أول علائم أخذ البلد

ي ـ إسلام بعض الفرنج: استأمن من الإفرنج خلقٌ عظيم ، أخرجهم الجوع إلى معسكر السُّلطان صلاح الدين ، قالوا: نحن نخوض البحر في براكس، ونكسب من العدوِّ ، ويكون الكسب بيننا وبين المسلمين ، فأذن لهم ، وأعطاهم بركوساً ـ وهو المركب الصغير ـ فركبُوا فيه ، وظفروا بمراكب لتجار العدوِّ بضائعهم معظمها فضة مصوغة ، وغير مصوغة ، فأسروهم ، وكبسوهم ، وأحضروهم بين يدي السُّلطان ، فأعطاهم السُّلطان جميع ما غنموه، فلمَّا أُكرموا بهذه المكرمة؛ أثنوا على اليد المُنْعِمَة ، وأسلم منهم شطرهم ، وأحضروا مائدة فضة عظيمةٍ، وعليها مكبَّة عالية، ومعها طبقٌ يماثلها في الوزن، ولو وزنت تلك الفضيبات؛ قاربت قنطاراً ، فما أعارها طرفه احتقاراً.

ك ـ استشهاد جمال الدين محمد بن أرككز: والتقى في هذه السنة شواني المسلمين بشواني الفرنج في البحر ، فأحرقت للكفر شواني برجالها، وكان عند العود تأخر شيني ، مقدَّمه الأمير جمال الدين محمد بن أرككز ، فأحاطت به مراكب العدو ، فتواقع ملاَّحوه إلى الماء ، وسلَّموه إلى البلاء ، فقاتل ، وصبر فعرضوا عليه الأمان ، فقال: ما أضع يدي إلا في يد مقدَّمكم الكبير ، فلا يخاطر الخطير إلا مع الخطير ، فجاء إليه المقدَّم الكبير ، وظنَّ: أنه قد حصل له الأسير ، فعاقره ، وعانقه وقوَّى عليه ، وما فارقه ، وقعا في البحر ، وغرقا ، وترافقا في الحمام ، واتّفقا ، وعلى طريقي الجنة ، والنار افترقا( كتاب الروضتين، م4، 264ص).

ل ـ وصول القاضي الفاضل إلى معسكر السُّلطان صلاح الدين: وصل القاضي الفاضل من مصر إلى المعسكر المنصور في ذي الحجة ، وكان السُّلطان متشوقاً إلى قدومه ، وطالت مُدَّة البين لغيبته عنه سنتين ، على أن أمور الممالك بمصر كانت بحضوره مستتبَّةً ، وقد جمع للملك العزيز بمقامه هيبةً ، ومحبَّةً ، وكان السلطان شديد الوثوق بمكانه ، دائم الاعتماد ، والاستناد على إحسانه ، وإلى أركانه ، فإن استقدمه؛ خاف على ما وراءه من المهام ، وإن تركه؛ نال وحشة التفرُّد بالقضايا ، والأحكام ، وكان يكاتبه بشرح الأحوال ، ويستشيره ، والنَّجابون متردِّدون بالمكاتبات ، والمخاطبات ، والاستشارة في المهمَّات، فوصل إلى القدس ، واعتاق بتوالي الأمطار... ورجع الفضل ، واجتمع الشَّمل ، واستأنس الملك بصاحب تدبيره ، وتأسَّس ركنه برأي مشيره( صلاح الدين، علي الصلابي، ص493).


المراجع:

1.     صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبد الله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405 هـ 1985م.

2.     صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.

3.     كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418 هـ 1997م.

4.     النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد ، تحقيق أحمد إيبيش ، دار الأوائل سوريا ، الطبعة الأولى 2003 م.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس