توران قشلاقجي - القدس العربي
يركز العالم حاليا على فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، والخطوات التي سيتخذها بعد توليه المنصب رسميا في الأسابيع المقبلة هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا تزال مأساة غزة تهز وتؤلم ضمائر الجميع بعمق. هذا الوضع يتطلب الرجوع إلى مقولة شهيرة للفيلسوف والسياسي والمنظر الاشتراكي الإيطالي أنطونيو غرامشي مفادها، أن «العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يناضل من أجل أن يولد، الآن هو زمن الوحوش». غرامشي، الذي عبّر عن هذه الكلمات قبل قرن من الزمان، كان يشير إلى الطبيعة المؤلمة لعمليات التغيير الاجتماعي والسياسي في العالم، ويكشف عن الصراعات والتغيرات بين قيم العالم وأعرافه ومثله العليا في عملية إنهاء النظام القديم وبناء النظام الجديد.
عبارة «الآن هو زمن الوحوش» التي قالها غرامشي، تمثل العناصر الخطيرة والمظلمة التي تظهر في هذه الفترة الانتقالية، ووفقا له، فإن بيئة الغموض والفوضى تخلق فراغات وفجوات في النظام الاجتماعي، وهذه الفجوات تصبح عرضة للاستغلال. الوحوش تمثل التطرف والانحلال الأخلاقي، أو القوى الخبيثة التي تظهر في هذه الفجوات، ويؤكد غرامشي أنه لا مفر من الفوضى الأيديولوجية والأخلاقية، في مثل هذه الفترات التي تمر بها المجتمعات أثناء تحولها إلى نظام جديد، ولكن من الضروري أن ننتظر بمشاعر من الأمل النظام الجديد الذي سينبثق من هذه المرحلة.
وأثناء مضينا نحو عالم متعدد الأقطاب، من الضروري تحليل ما يحدث في زمن الوحوش بعناية، وبذل الجهود من أجل أن تولد منطقتنا من جديد بقوة وبأقل الخسائر الممكنة. في هذا السياق، أود أن ألفت الانتباه إلى خبر نُشر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية قبل شهر من اندلاع الحرب في غزة، رغم أنه لم يحظَ بالاهتمام الكافي في إعلام العالمين العربي والإسلامي؛ في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، سافر يهودي يُدعى جورج حمداني من مدينة همدان الإيرانية، إلى تشاد في وسط افريقيا. في ذلك الوقت، كانت مدينة إنجامينا قد شهدت بناء مسجد جديد، وكان المسؤولون يبحثون عن مؤذن لهذا المسجد.
عرّف حمداني نفسه على أنه مسلم وطلب أن يتم تعيينه لهذه المهمة. ومع مرور الوقت، نجح في كسب ود المجتمع المحلي، وتزوج من امرأة مسلمة. وأنجبا سبعة أطفال، وفي غضون عشر سنوات، جمع ثروة ضخمة تضم 40 منزلًا، وفندقين، وصالة سينما، وفي عام 1943، توقف عن الذهاب إلى المسجد وكشف عن هويته الحقيقية قائلاً: «أنا يهودي في الواقع». بعد عامين من إعلان تشاد استقلالها في عام 1960، أرسل سفير إسرائيلي تقريرا إلى تل أبيب قال فيه: «لقد اكتشفت اليهودي الوحيد في تشاد». وعندما تم رفع السرية عن التقرير بعد 61 عاما، اتضحت ردة فعل التشاديين، عندما علموا أن حمداني كان يهوديا: «هذا الأمر أحدث ضجة كبيرة في المدينة، لكن حمداني كان ثريا جدا وقويا ومن حوله أصحاب مصالح محصنين. وبسبب ذلك لم يتأثروا كثيرا في افريقيا، وهدأت الضجة ونسي الأمر». خلاصة القول؛ يجسد هذا الوضع المشكلة التي يعاني منها العالم الإسلامي، والتي يستغلها أعداؤنا اليوم في تنفيذ مخططاتهم ضد بلدان المنطقة.
موقف جورج حمداني هذا مليء بالدروس والعبر، أليس كذلك؟ هذه هي حقيقة الصهيونية، إنهم يظهرون أمامكم تارة بهيئة رجال الدين، وتارة أخرى بهيئة السياسيين، أو زعماء الأحزاب، أو الأكاديميين، أو حتى الصحافيين. ولا شك في أن هذه القصة تلخص لنا مدى أهمية أن تتحرك منطقتنا بيقظة وحذر شديد في زمن الوحوش.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس