ترك برس
تسعى تركيا لفتح صفحة جديدة في القضية الكردية من خلال مبادرة سياسية يقودها دولت بهتشلي بدعم الرئيس رجب طيب أردوغان، في خطوة تجمع بين الحوار والمواجهة العسكرية. ورغم اعتبارها "فرصة تاريخية"، تواجه المبادرة تحديات محلية وإقليمية، أبرزها هجوم أنقرة الأخير الذي يسلط الضوء على عقبات تحقيق السلام.
وتحث تركيا خطاها في اتجاه إيجاد حل لما يعرف بالقضية الكردية من خلال طي صفحات المواجهات المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، وهو الأمر الذي يراه مراقبون تحدثوا لـ"عربي21" مسارا يواجه كثيرا من العقبات بحكم الظروف المحلية والإقليمية.
ويضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ثقله في الدفع لصالح المبادرة التي أعلن عنها حليفه زعيم "الحركة القومية" دولت بهتشلي قبل أيام في البرلمان، من أجل إيجاد حل ذي أرضية سياسية توافقية تضمن طي صفحة "القضية الكردية".
وبالرغم من تفرد بهتشلي بهذه المبادرة التي أشعلت الأوساط السياسية في تركيا، إلا أن أردوغان ما لبث أن أعلن عن دعمه لهذا المسار عبر التأكيد على أن الطرح الموضوع على الطاولة من قبل زعيم القوميين يمثل "فرصة تاريخية".
وخلال كلمة له أمام الكتلة البرلمانية لحزب "العدالة والتنمية"، أواخر أكتوبر الماضي، قال أردوغان إن بهتشلي "قائد يرسم مسار التاريخ بموقفه وخطابه وسياساته"، وأوضح أن "من يقرأ الدعوات الأخيرة لرئيس حزب الحركة القومية يرى نافذة تاريخية مفتوحة أمامنا ويشعر بالإثارة".
وأضاف الرئيس التركي أن "هذه الفرصة السانحة التي فتحت أمامنا، هي فرصة لتعزيز الجبهة الداخلية ضد الصديق والأعداء"، مشيرا إلى أنها "تحتاج إلى تقييم جيد للغاية من قبل الأمة والمؤسسة السياسية".
وتوجه أردوغان إلى مواطنيه الأكراد بالقول "من فضلكم تذكروا هذا: نحن كـ 85 مليون شخص، لدينا طعام واحد، خبز واحد، قبلة واحدة، وطن واحد، أرض واحدة، علم واحد، نشيد واحد، دولة واحدة، والأهم من ذلك واحد، ماضينا ومستقبلنا، مصير واحد".
وتابع: "أيها الإخوة الأكراد، نتوقع منكم أن تمدوا هذه اليد بإخلاص وأن تمسكوها بقوة، نريد منكم القضاء على أولئك الذين هم أدوات إسرائيل الصهيونية، وخدم الإمبريالية، وأدوات أعداء تركيا".
ويعلق الباحث في الشأن التركي محمود علوش على خطاب الرئيس التركي المشار إليه، بالقول إن أردوغان يدعم مبادرة زعيم الحركة القومية ولا يمكن أن نتصور بأن دولت بهتشلي يمكن أن يقدم على هذا الطرح الجريء دون توافق مع حزب العدالة والتنمية.
ويضيف علوش في حديثه لـ"عربي21"، أن هناك تنسيقا قائما بين أردوغان وبهتشلي فيما يتعلق بالمسألة الكردية.
وفي أعقاب ذلك، تلخصت مبادرة بهتشلي الذي يعد أحد أهم أركان "تحالف الجمهور" الحاكم الذي يقوده أردوغان، في قوله أمام كتلة حزبه النيابية "إذا تم رفع العزلة عن الزعيم الإرهابي (أوجلان)، فعليه أن يأتي ويتحدث في اجتماع مجموعة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM) في مجلس الأمة التركي، ويصرخ بأن الإرهاب انتهى تماما وتم إلغاء التنظيم".
ويقبع أوجلان داخل محبسه في سجن بجزيرة "آمرلي" منذ عام 1999 بتهمة "الخيانة والانفصالية" حيث صدر بحقه حكم بالإعدام، إلا أن هذه العقوبة خففت عام 2002 إلى السجن مدى الحياة.
ووفقا لمبادرة بهتشلي، فإنه "في حال أظهر (أوجلان) هذا التصميم، فسيكون الطريق مفتوحا على مصراعيه للاستفادة من حقه في الأمل" بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تمنح أي محكوم بالمؤبد حق الخروج من السجن بعد قضاء مدة محددة داخل السجن.
في أعقاب ذلك، شهدت العاصمة التركية أنقرة هجوما مسلحا تبناه حزب العمال الكردستاني ونفذه اثنان من أعضائه أحدهما امرأة، ضد منشأة تعود لشركة صناعات الطيران والفضاء التركية "توساش" (TUSAŞ)، ما أسفر عن سقوط 5 قتلى وإصابة 22 آخرين بجروح مختلفة.
المبادرة بين العسكري والسياسي
وبالرغم من هجوم أنقرة الدموي الذي رآه مراقبون أنه دليل على العقبات التي تواجه المسار الجديد للحكومة التركية في ما يتعلق بالقضية التركية، واصل كل من بهتشلي وأردوغان التأكيد على دعمهم للمسار السياسي بالوقت الذي شنت فيه أنقرة خلال أيام قليلة عشرات الغارات الجوية على أهداف تابعة لـ"حزب العمال الكردستاني" شمالي سوريا والعراق.
وفي أول خطاب له بعد مبادرته "التاريخية"، شدد بهتشلي على الروابط التاريخية بين الأكراد والأتراك، وقال "إذا كان هناك تركي لا يحب الأكراد فهو ليس تركيا. وإذا كان هناك كردي لا يحب الأتراك فهو ليس كرديا".
إلا أن زعيم القوميين الأتراك الذي رفض وجود ما يسمى بـ"المشكلة الكردية" معتبرا أن الموجود في تركيا هو "مشكلة الإرهاب الانفصالي الذي سنقتلعه من جذوره"، أبقى الباب مفتوحا خلال حديثه أمام الحل العسكري.
وقال بهتشلي إنه في حال "قاومت هذه الجهات (الانفصالية) اليد التي مددناها لهم للصلح فستعود سياسات مكافحة الإرهاب القديمة بشكل أشد وأعنف من السابق ولن تنفع الدموع وقتها"، حسب تعبيره.
الكاتب التركي علي أسمر، يرى أن الحكومة التركية انتهجت على مدار عشرين سنة مسارين في ملف الأكراد وهما مسار عسكري ثابت الموقف ومسار سياسي متغير حسب الأوضاع الإقليمية.
ويوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن "تركيا تحاول في ظل الحرب على غزة والتوسع الإسرائيلي في المنطقة حل مشكلة الإرهاب عسكريا وسياسيا، لأن الصدام التركي الإسرائيلي أمر غير وارد بسبب وجود أنقرة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي يجعل الخطر متمثلا بحزب العمال الكردستاني المدعوم من قوى غربية".
ويشير أسمر إلى أن "خطاب بهتشلي هو خطة من الدولة العميقة في تركيا لإفشال المخطط الغربي في المنطقة، وخاصة أن عبد الله أوجلان وصلاح دمير تاش يميلان للحل السياسي بعد سنوات من الصراع".
لذلك، بحسب الباحث التركي، أرسلت الحكومة التركية "رسالة غير رسمية عبر حليفها زعيم الحركة القومية من أجل تكثيف المسار السياسي الذي سيبعد التدخل العسكري المباشر في سوريا والعراق".
وحول استمرار المسار على الرغم من الهجوم المسلح على أنقرة الذي تبناه حزب العمل الكردستاني، فإن أسمر يرجح أنه "ربما لا يمثل وجهة نظر الحزب بل يمثل وجهة نظر بعض قياداته أو يمثل وجهة نظر القوى التي تدعم هذا الحزب، ما يجعل المسار السياسي قائما إلى الآن".
بدوره، يرى علوش أن مثل هذه العقبات يمكن أن تؤدي أو تقلص من فرص نجاح المسار الذي تنتهجه تركيا إزاء المسألة الكردية، لكنه يوضح أن هذا المسار في النهاية هو "مسار يعكس توجها استراتيجيا لدى أردوغان".
وبحسب علوش، فإن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار اليوم أن أردوغان ينظر إلى نفسه كزعيم تركي استطاع أن ينقل المسألة الكردية من جهة إلى جهة أخرى. وبالتالي هو يسعى لتعزيز إرثه فيما يتعلق بهذه العملية.
وكان أردوغان الذي دعا إلى استغلال "الفرصة التاريخية"، قال في الخطاب ذاته "ليس لدينا ولا يمكن أن يكون لدينا أي جاذبية للتنظيم الإرهابي الانفصالي في شمال العراق وسوريا، أو بارونات الإرهاب في قنديل الذين يتغذون على الدماء".
وأضاف أن "جهودهم المستمرة للتعامل معنا ليست أكثر من محاولة لإثبات أنفسهم لرؤسائهم الذين يمسكون بالخيوط في أيديهم"، مشيرا إلى أن الهجوم الذي وقع في أنقرة "أظهر مرة أخرى أن اللغة الوحيدة التي يفهمها الإرهابيون هي الكفاح بلا هوادة ضد الإرهاب".
هل التواصل مع أوجلان يكفي؟
أعرب أوجلان وهو في محبسه في جزيرة "آمرلي" ببحر مرمرة عن تجاوبه مع مبادرة بهتشلي التي دعته إلى إعلان حل حزب العمال الكردستاني من داخل البرلمان التركي في أنقرة.
وقال أوجلان في رسالة بثها ابن شقيقه عمر عقب زيارة عائلية في محبسه، إنه "في حال توفرت الظروف، لدي القوة النظرية والعملية لنقل هذه العملية (يقصد المواجهات مع حزب العمال الكردستاني) من أرضية الصراع والعنف إلى الأرضية القانونية والسياسية".
وبحسب ما نشره عمر أوجلان عبر حسابه على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، فإن زعيم حزب العمال الكردستاني أجرى تقييما للتطورات السياسية العامة وطلب إيصال الرسالة المشار إليها، خلال الزيارة العائلية التي أجريت الأسبوع الماضي لأول مرة منذ عام 2020.
ويرى أسمر أن قبول عبد الله أوجلان بهذه المبادرة من شأنه أن يشق صفوف حزب العمال الكردستاني، مشيرا إلى أن الخلافات الداخلية في مثل هذه الأحزاب تكون خطيرة وتتبعها عمليات تصفية كبيرة لبعض الشخصيات وهذا ما سيفيد تركيا في مسارها العسكري أيضا ضد هذا الحزب.
ولا يوجد خيارات كثيرة أمام تركيا في هذه القضية، بحسب أسمر، حيث تتمثل خياراتها إما بالحل السياسي أو العسكري، وبالفعل قامت أنقرة بوضع كلا الخيارين على الطاولة، يقول الباحث.
من جهته، يشير علوش إلى أن أوجلان لا يزال يملك تأثيرا على حزب العمال الكردستاني لكن اليوم هذا الحزب يختلف عما كان عليه قبل سنوات، حيث أصبحت عملية تشكيل القرار داخله تتمحور حول قيادة أكثر راديكالية تتمركز في جبال قنديل شمالي العراق.
بالرغم من ذلك، يؤكد الباحث أن تأثير أوجلان لا يزال يتمتع بمساحة معنوية إلى حد كبير سواء على حزب العمال الكردستاني أو على الحالة الكردية عموما في تركيا ودول المنطقة.
ويلفت إلى أن أي مبادرة يمكن أن يقوم بها أوجلان فيما يتعلق بالمسألة الكردية من شأنها أن توجد شرعية كبيرة داخل الحالة الكردية على المستوى الشعبي وحتى على المستوى السياسي في تركيا، وذلك من أجل الدفع باتجاه عملية سلام مع الدولة أو عملية لإنتاج حل مع الدولة.
وبحسب علوش، فإن دعم أوجلان لمثل هذه المبادرات سوف يضعف أي محاولة أو جهد من حزب العمال الكردستاني لعرقلة هذا المسار الذي تنتهجه أنقرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!