ترك برس
تسعى تركيا إلى إعادة تقييم موقفها من القضية الكردية في سياق التحولات الإقليمية المتسارعة، حيث يُظهر تحالف الحكومة التركية اهتمامًا متزايدًا بالحوار مع الحركة القومية الكردية. يأتي هذا التحرك في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط توترات متزايدة، خاصة في غزة ولبنان، ما يدفع تركيا إلى تعزيز استقرارها الداخلي. ورغم الشكوك في نوايا الحكومة من قبل بعض الأوساط الكردية، يرى المحللون أن هذه الخطوات قد تكون استجابة لمتغيرات سياسية قد تؤثر على الوضع الاستراتيجي لتركيا في المنطقة.
وفي هذا الإطار، سلط مقال نشره موقع "المجلة"، الضوء على المبادرة التركية الجديدة حول القضية الكردية، والتي جاءت بالتزامن مع تطورات إقليمية وتصاعد التوتر في غزة ولبنان.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
من خارج الأجندة وما انتظمت عليه الحياة السياسية التركية طوال السنوات الماضية، وبعد انتهاء جلسة برلمانية مُغلقة عُقدت قبل عدة أيام، تقدم زعيم الحركة القومية التركية "المتطرفة" دولت بهجلي من منصة نواب "حزب ديمقراطية الشعوب" المؤيد للأكراد في تركيا، مصافحا إياهم جميعا، مُظهرا ومعبرا عن احترامه وتقديره لـ"زملائه النواب".
بعد أقل من ساعة على الحادثة، ألقى بهجلي خطابا مطولا لأعضاء كتلة حزبه البرلمانية، نفى فيها أن تكون مصافحته للنواب الأكراد مصادفة، مضيفا: "على الرغم من أن الطريق صعب، لكن لم يفت الوقت بعد، صلواتي الصادقة وإعلاني لحسن النوايا وأنه من الضروري إيجاد حلٍ شامل، هي رؤية استراتيجية، شرط أن يرفع الجميع أيديهم عن زناد العداء، إذا جاز التعبير، فتركيا لنا كلنا، وليس لنا غيرها".
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أشاد بخطوة وخطاب حليفه السياسي دولت بهجلي، وقال للصحافيين أثناء عودته من صربيا: "باعتباري سياسيا مخضرما، لم أجد غرابة أن يتخذ السيد بهجلي مثل هذه الخطوة... مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يتخذون هذه الخطوات، نأمل أن نتمكن من توسيع قاعدة التوافق الاجتماعي حول الدستور الجديد. إن أساس سياستنا يكمن في حل كل قضايا البلاد بإجماع واسع وإشراك مختلف شرائح المجتمع في هذه العملية. هناك يد ممدودة بشكل واضح وحازم، بهدف دعم نضال بلادنا من أجل الديمقراطية".
الحدثان السياسيان جاءا بعد يومين فحسب من تقرير مطول نشره موقع "المونيتور" الأميركي، قالت كاتبته أمبرين زمان إنها استقت معلوماتها من ثلاثة مصادر سياسية تركية رسمية، أكدت كلها أن أعضاء بارزين من مؤسسات الحُكم العُليا التقوا خلال الأسابيع الماضية بزعيم "حزب العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، المسجون في سجن أميرالي منذ عام 1999، وأنهم سمحوا لأوجلان بالتواصل مع القيادات العسكرية الميدانية لحزبه في معسكرات جبال قنديل، بغية إقناعهم بترك السلاح ودفعهم للانخراط في تفاوض سياسي مع الدولة التركية.
يجري ذلك بعد قرابة عشر سنوات من الاستقطاب والقطيعة السياسية الحادة بين الطرفين، أغلقت فيها تركيا كل مسارات التفاوض التي كانت تجمعها مع "حزب العمال الكردستاني"، وشنت حربا مفتوحة على مقاتليه، داخل تركيا وفي كلٍ من سوريا والعراق، فيما كان الحزبان الحاكمان: "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" (المتطرف)، المنضويان ضمن "تحالف الشعب" الحاكم، يكيلان اتهامات التخوين والعمالة ومحاولة تقسيم تركيا إلى حزب "ديمقراطية الشعوب" الموالي للأكراد.
ظلال غزة ولبنان
المثير للانتباه أن التحول السياسي الحالي للسلطة في تركيا تجاه المسألة الكردية يأتي في وقتٍ صار فيه الرئيس أردوغان وجهازه الحزبي والحكومي والإعلامي يكثفون من عرض تحذيراتهم من المراحل اللاحقة للحرب الحالية في كل من غزة ولبنان، وتنبيههم من إمكانية تأثير هذه التحولات الإقليمية على الاستقرار الداخلي التركي.
وحسب تصريحات إعلامية وتحليلات سياسية مكثفة، قدمتها شخصيات ومنابر إعلامية مقربة من الرئيس أردوغان وحزبي "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" طوال الأيام الماضية، فإن الاستراتيجية السياسية لإسرائيل ستستمر لسنوات قادمة، وستستهدف سوريا بعد غزة ولبنان، وستسعى قدر المستطاع لـ"تفكيك سوريا"، إن لم يكن جغرافياً، فسياسياً ودستورياً على الأقل، مركزة على إضعاف المركزية السياسية والأمنية داخلها. وكذلك ستطال إيران نفسها، من خلال توجيه ضربات عسكرية وأنواع من الحصار والعقوبات التي ستضعف النظام الإيراني داخليا، وربما تطيح به.
يقدم الرئيس أردوغان غطاء شاملا لكل تلك التحليلات التي تُقدم للجمهور التركي من خلال وسائل الإعلام، تحديدا من حيث الإشارة المستمرة إلى أن "وحدة الأناضول في خطر"، في إشارة غير مباشرة إلى أن الأحداث الراهنة، في سوريا وإيران والعراق، ستقوي من الموقف والموقع الاستراتيجي للأكراد في هذه الدول، وتاليا في المنطقة، وهو ما سيدفعهم للمزيد من الجرأة والقدرة على تحقيق مكاسب سياسية داخل تركيا. لأجل ذلك، ودائما حسب الرئيس أردوغان والقوى السياسية والإعلامية المقربة منه، فإنه على تركيا أن تستبق كل ذلك، وتحصن ساحتها الداخلية، من خلال عقد توافق سياسي مع الحركة القومية الكردية.
غريزة الدولة
الباحث والكاتب السياسي هيما نيازي شرح في حديث مع "المجلة" ما سماه "غريزة الدولة" التي تقود الحزبين البارزين في تركيا راهناً، ومعهما الجزء الأوسع من النخبة الأمنية والعسكرية وحتى الاقتصادية التركية، وطبعا تيارات الدولة العميقة لفعل ذلك. فـ"تحالف الشعب" الحاكم هو الممثل السياسي لكل تلك التشكيلات السياسية والأمنية والدولتية، ومتوافق معهم استراتيجياً، ويعبر عن رؤيتهم بعيدة المدى.
ويضيف: "بالنسبة للمسائل السياسية الاستراتيجية في تركيا، ومنذ ستينات القرن المنصرم، حينما بدأت مرحلة الانقلابات العسكرية، كانت الدولة العميقة تستبق ما تستشعر وتصنفه كـ"تحولات إقليمية ودولية قادمة"، وتتصرف مسبقا، لحماية الكيانية التركية من هذه التحولات.
وحسب ذلك، قامت نواة الدولة هذه بثلاثة انقلابات عسكرية مباشرة، وانقلاب آخر عام 1997، لم يحتج أن يأخذ طابع هيمنة الجيش على الحياة السياسية. وبناء عليه، سمحوا لزعيم نصف إسلامي مثل تورغوت أوزال بأن يصل لسُدة الحُكم في أوائل الثمانينات، وأحدثوا تحولات في الحياة السياسية قُبيل سقوط الاتحاد السوفياتي أو تحسبا لحصول أكراد العراق على حُكم فيدرالي. وفي السياق نفسه، فإن ما يجري من تحركات تجاه الحركة القومية الكردية هو استعداد وتحسب أولي لما قد يحدث في عموم المنطقة، فالتقارير التركية تذهب لحد الاعتقاد بأن الخرائط لن تبقى كما هي عليه راهنا خلال عقد واحد فحسب".
وقد يكون ما يجري حاليا في أروقة السياسة التركية هو مرحلة استكشافية ليس أكثر، وليس شرطا أن تتحول إلى مشروع سياسي تفاوضي واضح المعالم، فالأمر قد يحتاج إلى فترة زمنية قد تمتد لسنوات، مثلما حدث في تجارب أخرى، فالمسألة الكردية هي القضية الأعقد داخل تركيا على الإطلاق.
ويقول نيازي: "مسار أوسلو التفاوضي بين الدولة العميقة و(حزب العمال الكردستاني)، الذي انطلق عام 2008، تم التحضير له منذ عام 2006، وما سُمي في عام 2013 (عملية الحل) التي أُعلن عنها وشارك فيها زعيم (حزب العمال الكردستاني) عبد الله أوجلان بدأت كتواصل أولي مع القيادات العسكرية لـ(العمال الكردستاني) في أوائل عام 2012. لأجل ذلك، فإن القوى السياسية الممثلة للتطلعات الكردية، سواء قيادة (حزب ديمقراطية الشعوب) أو قادة (العمال الكردستاني) وحتى زعيمهم عبد الله أوجلان، لا يُمكن أن يثقوا ويندفعوا إلى الدعوات التركية بزخم واضح، قبل وضوح ملامح ما تسعى السلطة والدولة العميقة في تركيا إلى تحقيقه من خلال ما تُظهره وكأنه حل للمسألة الكردية".
وحول الخطوات اللازمة التي يجب على الطرفين اتخاذها لإعادة بناء الثقة، يقول نيازي إن "حزب العمال الكردستاني" قادر على إظهار "إعلان للنوايا"، متمثل في استعداده لترك الكفاح المسلح وتعهده بعدم السعي لتقسيم تركيا بأي شكل. قُبالة ذلك، فإن السلطات التركية يجب عليها أن ترفع العزلة السياسية عن زعيم "حزب العمال الكردستاني" مثلا، وتقدم مبادرات إنسانية كإطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين الأكراد، خصوصا الذين لهم حالات مرضية. إلى جانب ذلك، فإنه لا يُعقل أن تبدأ عملية سلام مع الحركة القومية الكردية بينما تواصل تركيا قصفها للمنشآت والمدنيين الأكراد في سوريا، ومثلها قضايا داخلية كرفع الوصاية عن البلديات الكردية ومنح الساسة الأكراد المعتقلين مثل صلاح الدين دميرتاش مزيدا من حق الوصول إلى الجمهور.
جزء واضح من الرأي العام الكردي في تركيا، وحتى الساسة وأعضاء النُخبة السياسية، يشككون في نوايا التحالف الحاكم، تحديدا الرئيس أردوغان، متهمين إياهم باستخدام شعار مفاوضة القوى الكردية وحل المسألة الكردية فقط كسعي لفصل "حزب ديمقراطية الشعوب" عن باقي قوى المعارضة التركية، وخلق نوع من الهدوء الأمني، بغرض إقرار دستور جديد للبلاد، يمنح الرئيس أردوغان القدرة على الاستمرار في الحُكم لعشر سنوات جديدة، وفقط كذلك.
يستند هؤلاء إلى تجارب سابقة شهدتها الحركة القومية الكُردية مع سلطة الرئيس أردوغان. فخلال مراحل التفاوض ضمن "مسار أوسلو" عام 2008، كان الرئيس أردوغان يحاول استخدام الملف لإضعاف النواة العسكرية الصلبة ضمن النظام السياسي التركي، من خلال خلق ضغط سياسي داخلي ودولي عليهم، وإظهار نفسه كجهة تسعى لانتشال تركيا من الصراع الداخلي. بعدها بسنوات، أثناء مفاوضات "عملية الحل" 2013، فإن الهدف النهائي للرئيس أردوغان كان استمالة الأكراد لتحويل البلاد للنظام الرئاسي.
قُبالة ذلك، فإن الرأي الغالب ضمن الأوساط الكردية يفضل عدم انجرار الحركة الكردية نحو المطالب المطلقة، مثل الفيدرالية واللامركزية السياسية، مفضلين اتخاذ خطوات متوازنة لا تطيح بأية عملية سياسية مطروحة، مهما كانت وظيفية وذات وجه استخداماتي بالنسبة للسلطة الحاكمة، فالمهم في المحصلة هو عدم منح التيارات المتطرفة ضمن النظام والدولة العميقة حجة لإشعار الجمهور التركي بخطر التفاوض على المستقبل السياسي لتركيا.
ويفضل الجمهور الكردي، حسبما تظهر آراؤه في وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي، أن يركز المفاوضون الأكراد على قضايا مثل اللغة الكردية ومكانتها الرسمية في المناطق الكردية، وإلى جانبها خلق حماية للبلديات المُنتخبة من القواعد الاجتماعية، والتركيز على إقرار التنوع القومي ضمن تركيا في أي دستور مستقبلي
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!