د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر

بأيِّ حقٍّ وعلى أيِّ وجهٍ ولأيِّ سببٍ جاء وضع الإنسان مع الطبيعة مِنْ حَوْلِه؟ إنّ الإنسان -ابتداءً- ليس سيدا لهذه الطبيعة كما تزعم الفلسفة المعاصرة، ولا مالكًا لها، وليس ثمّ دليل أو برهان فيزيائيّ أو غير فيزيائيّ على زعم كهذا، إنْ هي إلا أسطورة من أساطير الإنسان المعاصر! ولا تزال الطبيعة تفاجئ الإنسان بالجديد الذي لم يكن يعرفه، ولا يزال الإنسان يلهث باحثا عمّا تُكنّه من أسرار وما تخفيه من مفاجآت، ولا يزال عاجزًا عن مواجهة الأخطار وإخضاع الكائنات.

لكنْ مع ذلك نرى الإنسان -على نحو ما وبدرجة ما- مُسَلَّطًا ومميزًا، مسلطا على هذه الطبيعة ومميزا بين ما فيها من مخلوقات وأحياء؛ فما وجه هذا التميز؟ وما علة هذا التسليط؟ وكذلك نرى الطبيعة -رغم استعصائها وأنَفَتِها- مَذَلّلة ومسخرة للإنسان؛ فما وجه ذلك أيضًا؟ وما تفسير كل هذه الظواهر المتقابلة؟ عن هذا الأسئلة الكبيرة الخطيرة يجيبك القرآن الكريم، ولا يجيبك غيره: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، خليفة في الأرض يعمرها بمنهج الله.

يظهر أثر مبدأ الاستخلاف في الاقتصاد من جذوره العقدية، فملكية الإنسان للأموال والأعيان ليست ملكية مطلقة، وإنّما هي ملكية استخلاف، وهذا طبيعيّ جدًّا ومنطقيّ للغاية؛ لأنّها في الأصل ملكٌ لخالقها، وملكية الخالق لا تزول عنها بامتلاك المخلوق لها، فالمخلوق مالك والخالق مالك، لكنّ ملكيةَ المخلوق فرعٌ عن ملكية الخالق، ومن هنا كانت ملكية المخلوق عارية عن الإطلاق؛ لذلك قال الله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، وهذا المنطلق سيكون له أثره في تعظيم البعد الاجتماعي في الاقتصاد، وفي تخليص الاستثمار من روح الأثرة.

وهذا الأصل تنبثق منه التشريعات التي تنظم حرية المرء في الكسب والتنمية والإنفاق، فهذه الحرية التي يقررها الإسلام ويطلقها إلى أبعد مدًى حريةٌ منظمة منضبطة بأحكام الشريعة؛ لضمان عدم إساءة استخدام الحرية في الإضرار بالخلق، ولقد أساء الغرب -بسبب غياب هذا الأصل- استخدام مبدأ الحرية؛ حتى صارت منحصرة في واقع الحياة في اتجاهين بارزين: حرية الرأسمالي في أن يفعل ما يشاء من أجل تعظيم ثرواته، وحرية شخصية تتلهى بها الشعوب راكضة في طريق الجنس.

والإنسان عندما ينطلق من غروره العلمي، ومن الزعم الكاذب بأنّه صاحب السيادة المطلقة على الطبيعة، ولا يستشعر معنى الاستخلاف؛ لا يتورع اتجاه هذه الطبيعة ولا يُقْسِط مع ما يحيط به من البيئة؛ إذْ إنّ المهم فقط بالنسبة له هو تنمية الثروة وتضخيمها، وهكذا أثرت القيم الاقتصادية المعاصرة في علاقة الإنسان ببيئته، وكما قال أحد مفكري الغرب: “إنَّ ثلاثة قرون من النمو العلمي والتكنولوجي قد تركت حضارتنا في وضع يتعذر الدفاع عنه، وجعلتنا في نزاع دائم مع البيئة الطبيعية”، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}.

يخطئ كثير من الناس عندما يخلطون بين مبدأ قيام الدولة على علاقة عقدية بين الحاكم والمحكوم وبين نظرية العقد الاجتماعي، أو يفترضون علاقة شرطية تلازمية بينهما، بينما الواقع غير ذلك، فلقد قامت دولة الخلافة الراشدة على أساس عَقْديّ لا علاقة له بما يسمى في الفلسفة السياسية المعاصرة بالعقد الاجتماعيّ، إنّما العقد الاجتماعيّ عبارة عن افتراض فلسفيّ يفسر قيام الدولة في حياة البشرية بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا، ويعلل تحول الخلق من حالة البداوة والسذاجة وعدم النظام إلى حالة الحكم والدولة والنظام، فهي نظرية فلسفية تجيب عن سؤال: ما هو أصل نشأة الدولة، وهو السؤال الذي استدعى للإجابة عنه نظريات كثيرة كان آخرها نظرية العقد الاجتماعي.

وتُعدُّ هذه النظرية أشهر النظريات التي فُسِّر بها ميلاد الدولة، وأجيب بها عن سؤال: ما هو أصل نشوء الدولة، وفكرة العقد الاجتماعي تنسب إلى ثلاثة من الفلاسفة المعاصرين الكبار، هم على الترتيب: توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، وجميع هؤلاء الثلاثة ومن شايعهم متفقون على أصل الفكرة، وهو أن الدولة نشأت في الأصل بتعاقد ضمنيّ، وأن ثمَّت تعاقدًا على نحو ما انتقل الناس بموجبه من حالة اللادولة إلى حالة الدولة، بأن تنازل الناس عن حرياتهم وحقوقهم (هوبز) أو عن بعض حقوقهم (لوك وروسو) في سبيل حماية باقي الحقوق والحريات وقيام الحكم الذي ينظم الحياة.

ولقد تعرضت هذه النظرية لانتقادات كثيرة من علماء وكتاب غربيين، منهم الكاتب بلونتشلي والفيلسوف ديفيد هيوم في سياق هجومه على المذهب الفردي، الذي عظمت من شأنه نظرية العقد الاجتماعي عند لوك وروسو؛ ومنهم فرنسيس فوكوياما الذي قال: “لم يوجد البشر قط في حالة سابقة على التعاون الاجتماعيّ… وفي البشر نزعة فطرية لإيجاد الأعراف أو القواعد واتباعها”، حتى المؤرخ ول ديورانت في كتابه “قصة الحضارة” نفى هذه الفرضية واعتبرها تتجاهل الواقع البشريّ الذي تتجسد فيه روح الجماعة والنظام في الأسرة، تلك المؤسسة الفطرية التي نشأت مع الإنسان.

والأهم من كل ما سبق هو أنّ هذه النظرية نشأت في سياق انفصال الإنسان المعاصر عن الإله واستقلاله بوضع نظم الحياة؛ فنشوء الدولة مسألة داخلية على هذا الكوكب، لا علاقة لها بالسماء، وهذا هو المنطلق الأول للفصل بين الدين والسياسة. أمّا في الإسلام فالدولة -التي يقوم فيها الحكم بموجب عقد بين الحاكم والمحكوم- ترى أنّ مُسَوِّغَ وجودها وقيامها هو أنّ الإنسان (جنس الإنسان) مستخلف في هذه الأرض؛ ليعمرها وفق منهج الله تعالى ويقيم فيها العدل بين الخلائق، فمن أجل عمارة الأرض وُجد الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. أعتقد أنّه آن للإنسانية أنْ تتحرر من الأوهام، وأن تسعد بما جاء به الإسلام من مبادئ وقيم وأحكام. وإنّها لبشرى لسائر الأنام.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس