ترك برس
قال الكاتب والأكاديمي التركي ياسين أقطاي إن سكان غزة لم يكونوا يخوضون حربهم ضد إسرائيل وحدها، ولم يهزموا إسرائيل فحسب، بل هزموا الولايات المتحدة أيضاً، بإمكانيات متواضعة وهم يرتدون نِعالا خفيفة.

وأضاف أقطاي في مقال له بصحيفة "يني شفق" أنه عندما نضع هذيان ترامب عن غزة، إلى جانب تصريحاته حول ضم غرينلاند وكندا وقناة بنما، تبرز أمامنا لغة مختلفة وعقلية مغايرة وشخصية أخرى.

وأضاف: "خاصة حينما أقحم بالسعودية ومصر والأردن في خططه لإعادة توطين أهل غزة، وكأنه يتحدث باسمهم، ما دفع هذه الدول الثلاث إلى الردّ عليه بحدة، في سياق يثير تساؤلات جدية حول طبيعة الأجندة التي يحاول فرضها".

وفي ما يلي نص المقال:

أثارت تصريحات ترامب بشأن غزة التي أدلى بها في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الملطخة يداه بدماء الأبرياء ومرتكب الجرائم اللاإنسانية، غضبًا واسعًا كما كان متوقعًا. فلم تكن كلماته منطقية، ولم تصدر عن عقل متزن. ويبدو أن السبب الرئيسي وراء ردود الفعل هذه هو أن الناس يشعرون بأن عليهم أن يأخذوا ما يقوله على محمل الجد لكونه رئيس الولايات المتحدة.

أما أولئك الذين يسعون جاهدين لتصحيح ما قاله عن غزة، فيأملون واهمين أنه بمجرد إصلاح جزء مما تفوّه به، قد يكون بالإمكان تعديل بقية كلامه. ولكن الحقيقة أنه لا يوجد في كلامه ما يحتمل التصحيح، ولا يستحق أن يُؤخذ على محمل الجد، لأنه لا يمت إلى الواقع بأي صلة. وقد قيل الكثير حول رؤيته لغزة بعقلية سمسار عقارات، وعدم قدرته على استيعاب أن من يعيشون فيها يرونها وطنا لهم، وليس مجرد قطعة أرض قابلة للبيع والشراء.

إن الدافع الحقيقي وراء المسيرة الملحمية لنصف مليون غزّي، الذين اندفعوا شمالًا بمجرد سماعهم نبأ وقف إطلاق النار، هو التشبث بالوطن. غير أن ترامب، يزعم أن أهل غزة يبقون فها لعدم وجود مكان آخر يذهبون إليه، وأنهم لو عُرضت عليهم أرضٌ أخرى، لرحلوا دون تردد. لكن ما يقوله ليس ناجمًا عن عجزه عن استيعاب مفهوم الوطن ومعناه الروحي، بل عن قناعة مترسخة لديه بأن هذا الدافع ترفٌ لا ينبغي أن يحظى به سوى اليهود وحدهم. وإلا فلماذا لا تُطبَّق هذه المعادلة على الإسرائيليين؟ ولماذا يتمسكون بهذه البقعة الصغيرة من الأرض، التي يمكن إيجاد بدائل لها في أي مكان؟ ألم يكن بالإمكان منحهم مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة في ألاسكا أو كندا أو حتى في أي ولاية أميركية، لتُحلّ المسألة من جذورها؟ لكن لا أحد يطرح مثل هذه الأفكار حين يتعلّق الأمر بإسرائيل، لأن الأرض تُعتبر مقدّسة بالنسبة لليهود، في حين لا يُسمح حتى بطرح احتمال أن تكون هذه الأرض مقدسة أيضًا للمسلمين.

ومهما تجاهلوا هذه الحقيقة فقد أثبت الفلسطينيون رداً على هذيان ترامب، على مدى 75 عامًا، مدى استعدادهم للتضحية من أجل أرضهم، غير أن ما قدموه خلال الحرب الأخيرة التي استمرت 471 يومًا يعد ملحمةً نقشوا بها هذه الحقيقة في وجدان العالم أجمع. ومن رأى مشهد النصف مليون فلسطيني، وهم يعودون إلى الشمال بعد وقف إطلاق النار رغم أن بيوتهم قد سُوِّيت بالأرض، فسيدرك المعنى الحقيقي لحب الوطن وقدسيته وقوة التشبث به.

وفي هذه الأثناء، قرر أكثر من مليون مستوطن إسرائيلي ممن جاؤوا إلى فلسطين بحجة قدسية "الأرض الموعودة"، واستولوا بالقوة على منازل الفلسطينيين وأراضيهم، أن يحزموا أمتعتهم ويعودوا من حيث أتوا، متذرعين بحالة عدم الاستقرار التي تعاني منها بلدهم، أو لتعرضهم بين الحين والآخر لهجمات من قبل حركة حماس،. وهذا يؤكد أن من يدرك حقيقة أن الأرض ليست مجرد قطعة جغرافية بل وطنًا مقدسًا هو الفلسطيني.

أما بخصوص مدى وجوب أخذ تصريحات ترامب على محمل الجد، فإن أفضل إجابة يقدمها أهل غزة أنفسهم. فقد جُمعت ردود أفعال بعض الذين سمعوا كلماته لأول مرة، ولم تكن سوى ضحكات ساخرة ممزوجة بدهشة تامة، تليها تساؤلات من قبيل: "هل هو جاد؟ هل هذه نكتة؟!" فعلى مدى 471 يومًا، ورغم الدمار الذي حلّ بكل شيء، لم يستسلم الفلسطينيون في غزة، بل أرهقوا القوة الصهيونية وأرغموها على التراجع، ولو استمرت الحرب لأرهقوها أكثر. فانسحاب إسرائيل من الحرب لم يكن لاستعادة أسراها فحسب، بل لأنها أدركت أنها استُنزفت وأنها لم تعد قادرة على تحقيق أي انتصار حاسم.

لم يكن الغزيون يخوضون حربهم ضد إسرائيل وحدها، ولم يهزموا إسرائيل فحسب، بل هزموا الولايات المتحدة أيضاً، بإمكانيات متواضعة وهم يرتدون نِعالا خفيفة.

عندما نضع هذيان ترامب عن غزة، إلى جانب تصريحاته حول ضم غرينلاند وكندا وقناة بنما، تبرز أمامنا لغة مختلفة وعقلية مغايرة وشخصية أخرى. وخاصة حينما أقحم بالسعودية ومصر والأردن في خططه لإعادة توطين أهل غزة، وكأنه يتحدث باسمهم، ما دفع هذه الدول الثلاث إلى الردّ عليه بحدة، في سياق يثير تساؤلات جدية حول طبيعة الأجندة التي يحاول فرضها. فلو لم يكن رئيس الولايات المتحدة، لما أولى أحدٌ هذه الأوهام أدنى اهتمام، ولكن يبدو أنه يمنح ترهاته هذه أهمية إستراتيجية كبيرة، وكأن الهدف منها تعويد الجميع على سماعها ودفع الجميع إلى التعامل معها بجدية، بل وإجبارهم على الدخول في مناقشتها والجدل حولها، بحيث يصبح ما كان مستحيلًا يوما ما خيارا مطروحا قابلا للنقاش. ولكن هل يتطلب السعي وراء مثل هذا الهدف كل هذا القدر من الهذيان؟ وهل ستكون هناك فرصة لمن يتبنى مثل هذه الأوهام أن يستعيد مصداقيته وسمعته بعد أن خسرها؟

فالسعودية مثلا – وفقًا للظروف الإقليمية المعتادة – من أكثر الأطراف استعدادًا للتعاون مع ترامب في المنطقة، ورغم ذلك جاء ردّها عليه سريعاً وحاسماً، إذ سارعت إلى رفض أطروحاته، وأكدت "دعمها الثابت وغير القابل للمساومة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة". فهل يمكن لترامب أن يعدّ مثل هذا الرد الصارم إنجازاً لصالحه أو دعماً لمخططاته الخيالية؟

كما أدلت مصر والأردن بتصريحات مشابهة، في الواقع ربما يكون ما فعله ترامب سببًا في تشكيل تحالف دولي جديد، أقوى من أي تحالف آخر ضد الولايات المتحدة التي تقدم دعماً غير محدود لإسرائيل وتشاركها في جرائمها.

فكيف يمكن الوثوق في علاقة الصداقة أو التحالف مع ترامب الذي كان قد فرض على السعودية استثمار 400 مليار دولار، ثم رفعه محمد بن سلمان إلى 600 مليار، والآن يتحدث ترامب عن رفع المبلغ ليصل به إلى تريليون دولار؟ كيف يمكن الصبر على مثل هذه العلاقة؟ وما الذي يمكن أن تقدمه هذه العلاقة من مساهمة ومكاسب تفوق ما تحمله من أعباء؟

إن هذه الخيالات الكوميدية العبثية لن تمنح الولايات المتحدة أي امتيازات أخرى في غزة أو في أي مكان آخر في العالم، كما يظن البعض. فشخصية بهذا القدر من التناقض والعبثية ستدفع جميع حلفائها إلى إعادة تقييم العلاقات بناءً على حسابات الربح والخسارة.

ومن يدري ربما يكون لترامب دور في تخفيف حدة هيبة الولايات المتحدة التي ابتلي بها العالم، وبالتالي تقديم الخير للبشرية جمعاء، رغم أن هذا ليس هدفه الحقيقي طبعا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!