
ترك برس
تناول مقال تحليلي للسياسي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، أبعاد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز"، والتي أعرب فيها عن "دهشته" من رفض الأردن ومصر لخطة تهجير سكان غزة.
وتساءل أقطاي في مقاله بصحيفة يني شفق عما إذا كانت دهشة ترامب تكمن في عدم تقدير هذين البلدين لما يراه هو خطة "منطقية وعقلانية بل ومربحة للغاية"؟ أم أن الأمر يعود إلى استغرابه من رفضهما دفع "الثمن" مقابل مليارات الدولارات من المساعدات التي تمنحها لهما الولايات المتحدة سنويًا، كما أشار في حديثه؟
وقال: "يبدو أن التركيز الأساسي في تصريحاته كان على النقطة الثانية. صحيح أن إسرائيل تحظى بالنصيب الأكبر من المساعدات الخارجية الأمريكية، لكن الأردن ومصر يأتيان على رأس قائمة الدول المستفيدة أيضًا، إلا أن هذه المساعدات كانت تهدف إلى ضمان حيادهما تجاه إسرائيل".
وأضاف: "بذلك، يمكن اعتبار هذه المساعدات، بشكل غير مباشر، دعمًا لإسرائيل نفسها. فأمريكا لا تقدم المساعدات لهذين البلدين من أجل إنعاش اقتصادهما أو تحسين مستوى معيشة شعبيهما، بل لأنها تحصل بالمقابل على ما هو أثمن، وكذلك إسرائيل. إلا أن ما يطالب به ترامب اليوم، بتأثير مباشر من الضغوط الإسرائيلية، يتجاوز بكثير حدود الأخذ والعطاء التي كانت قائمة بين الولايات المتحدة وهاتين الدولتين".
وتابع المقال:
قبول هذين البلدين بتهجير الفلسطينيين من غزة يخل أيضًا بالدور الذي كانا يؤديانه في المعادلة الإقليمية، حتى في إطار أمن إسرائيل. كما أن أكبر مخاوف البلدين في هذا الملف كون اللاجئين الفلسطينيين يشكلون تهديدًا محتملاً لاستقرار أنظمتهما، وهو ما لا يستطيع أي منهما المجازفة به. بل إن مجرد ممارسة الضغط عليهما في هذا الملف تعني العبث بتوازنات حساسة للغاية. فمخاوف البلدين لا تقتصر فقط على التهديد الأمني الذي قد يشكله أهل غزة، فمجرد قبول هذا التهجير يضعهما أمام تحدٍّ أخطر، وهو كيفية تبريره أمام شعبيهما.
ولو كان الأمر ممكنًا لقابلاه كلاهما بالترحيب، لكن العالم بأسره شهد الصعوبة التي واجهها ملك الأردن خلال مؤتمره الصحفي مع ترامب، فملك الأردن لا يستطيع رفض طلب لترامب، لكن الطلب نفسه كان يتجاوز قدرته على الموافقة عليه. أما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فحرصًا على تفادي الوقوع في الموقف ذاته، اضطر إلى تأجيل زيارته المخططة إلى الولايات المتحدة.
يبدو أن تصريحات ترامب على قناة "فوكس نيوز" جعلته يدرك أنه بالغ في الضغط على كلا الزعيمين، فرغم إعرابه عن دهشته، فإنه في الوقت ذاته غير قادر على استيعاب كيف يمكن لمخططٍ "رائع، متكامل، منطقي، مربح للجميع" – حسب رؤيته – أن يواجه مثل هذا الرفض. لكن هذه الدهشة ليست جديدة؛ فقد أظهر نفس الاستغراب حيال الفلسطينيين أنفسهم قبل أن ترفض مصر والأردن مخططه، حين تساءل عن سبب تمسكهم بالعيش في غزة، حيث تدمرت أدنى مقومات الحياة. فمن وجهة نظره، لا بد أن يفضل أهل غزة خيارات أخرى تضمن لهم العيش في ظروف أفضل بكثير، خاصة عندما تُعرض عليهم "بدائل أفضل".
ومن الواضح أن ترامب يرى أن مفاهيم الوطن والقدس والتاريخ والهوية لا ينبغي أن يكون لها أي أهمية لأهل غزة. ولكن لماذا يجب أن تكون هذه المفاهيم جوهرية للإسرائيليين ولا يُسمح بأن تكون كذلك للفلسطينيين؟ هذا التساؤل الاستشراقي والصهيوني لم يطرحه ترامب ولا أي مسؤول غربي على أنفسهم. فبالنسبة لهم، هذه الأرض مقدسة بالنسبة لإسرائيل لأنهم بشر، بل لأنهم "شعب الله المختار"، وهي أرض منحها لهم إلههم. أما الفلسطينيون، فلا ينبغي أن يكون لهم أي ارتباط بهذه الأرض، ويُفترض أن تكون أي قطعة أرض أخرى بالنسبة لهم بديلاً كافياً لهم.
إلا أن الواقع منذ عام 1948 أثبت العكس؛ فقد أظهرت مقاومة الفلسطينيين أن الأرض بالنسبة إليهم أكثر قداسة مما هي بالنسبة للإسرائيليين. والمشهد الذي رآه العالم كله حين عاد أهالي غزة بحنين شديد إلى أنقاض منازلهم فور الإعلان عن وقف إطلاق النار بعد471 يومًا من المجازر والتهجير، لم يكن سوى دليل آخر على عمق هذا الارتباط. هذا المشهد بلا شك، كان درسًا جديدًا لترامب مختلفًا عن كل ما اعتاد سماعه.
لكن دهشة ترامب قد تكون أيضاً مؤشراً على تراجعه عن خطته لتهجير الفلسطينيين من غزة. فبعد أن طرحها بمستوى عالٍ من التصعيد وحتى متطرف، بدأ الواقع يكشف استحالتها، مما أدى إلى خفض نبرة الحديث عنها تدريجياً. وحتى ترامب نفسه، الذي كان يرى خطته رائعة، عاد ليقول إنها مجرد "اقتراح" لكنه لن يفرضه. أما في إسرائيل، فقد تراجعت حدة الخطاب وجديته حول هذا المخطط.
ورغم ذلك فإن تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم وزير الخارجية ماركو روبيو، بأن "الخطة ستظل مطروحة ما لم يقدّم العرب بديلاً آخر"، تكشف أن الإدارة الأمريكية حولت الاقتراح من هدف إلى أداة للضغط على الفاعلين الإقليميين. فالمسألة لم تعد مجرد مقترح، بل باتت وسيلة لحصول الإدارة الأمريكية على تنازلات غير متوقعة، مستغلة منطق "السياسة المستحيلة" التي تحوّل المطالب غير القابلة للتنفيذ إلى أدوات ضغط لتحقيق مكاسب بديلة.
ومن جهة أخرى، كما ذكرنا سابقًا، فإن مطالب ترامب المتطرفة هذه قد تؤدي في الواقع إلى تقارب بين دول العالم الإسلامي، بل قد تساهم في تشكيل توازنات جديدة بين الدول التي تعاني من تصريحاته المجنونة.
وكما رأينا، فقد اجتمع القادة العرب بشكل غير متوقع بملابس غير رسمية في الرياض يوم الجمعة الماضي، لمناقشة إعادة إعمار غزة بعد الحرب، وذلك ردًا على اقتراح ترامب بسيطرة الولايات المتحدة على المنطقة دون مشاركة الفلسطينيين. وبغض النظر عن نتيجة هذا الاجتماع الاستثنائي الذي ضم قادة البحرين والأردن والكويت وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وبغض النظر عن تاريخ علاقات كل دولة بالولايات المتحدة أو إسرائيل، فإن هؤلاء القادة لن يتجاهلوا التهديد الذي ينطوي عليه مخطط ترامب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!