
إبراهيم قاراغول - يني شفق
ينهار النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، ويتم تفكيك جميع الهياكل الفوقية التي أُنشئت. لا يمكن لأي من المؤسسات التي لم تُمسّ بعد أن تصمد.
إنها عاصفة مدمّرة إلى حدّ أنها ستقلب خرائط القوة رأسًا على عقب، وتهزّ المسلّمات السياسية، وتغيّر أساليب العلاقات الإقليمية والعالمية من أساسها.
ولن يقتصر الأمر على المؤسسات الأوروبية فقط، بل ستُلغى جميع الهياكل فوق الوطنية بهذا الاتجاه. سيفقد مفهوم "المجتمع الدولي" قوته ومعناه، وستصبح الاتفاقيات الدولية بلا قيمة، كما ستفقد القرارات القضائية والعقوبات الدولية تأثيرها.
لن تعود الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان أدوات فعالة لفرض أي إجراءات. كل ما روّجت له أوروبا للعالم على مدى خمسة وسبعين عامًا سيتلاشى من قبضتها.
قد تُصادر العديد من الدول الهياكل الرأسمالية!
مصادرة الدول نفسها قد تصبح أمرًا طبيعيًا
ستنتشر الاحتلالات والاستيلاء على الدول والموارد. ستجد كل دولة قوية نفسها مخوّلة بالسيطرة على أي منطقة وكل ما تحتاجه ضمن محيطها. وسترى كل دولة قوية نفسها صاحبة الحق في "إعادة رسم الخرائط" في محيطها.
ستجرد "الدول الضعيفة" من حق المطالبة بالعدالة. وستفقد العديد من الشعوب فرصها في البقاء وسط هذه العواصف العاتية.
لن يكون هناك أي آلية تحدّ من سلطة الدول، ولا معايير أخلاقية أو قواعد تضبط ذلك. ستتعاظم سيطرة الحكومات المركزية بشكل غير مسبوق، وستنهار الدول التي لا تستطيع الوصول إلى هذا المستوى من القوة. كما ستندلع حروب شرسة بين الدول والشركات.
ستُفرض قيود على قدرة الشركات متعددة الجنسيات على حكم العالم والسيطرة على البشرية. قد نشهد في الولايات المتحدة ودول أخرى فترات يتم فيها الاستيلاء المباشر على هذه الشركات والهياكل الرأسمالية.
سيكون ذلك عصرًا تنحسر فيه المجالات المدنية، بينما تفرض "الدولة" رقابتها المطلقة على كل شيء، ليس فقط في السياسة والأمن والحياة الاجتماعية وسلامة الأراضي، بل أيضًا على رأس المال نفسه.
تحوّل التراخي الأوروبي إلى كابوس.
الغرب سيفقد قوته في جميع المجالات.
لقد أدت رؤية إدارة ترامب للولايات المتحدة والعالم إلى حدوث عاصفة مدمّرة جعلت حتى الأمم المتحدة، التي تمثل قمة الهياكل فوق الوطنية، تتأرجح، ولا أحد يعلم ماذا سيحدث لها. لن تكون الآليات العالمية والمؤسسات العابرة للدول هي المسيطرة، بل ستصبح العلاقات الثنائية والإقليمية بين الدول أكثر تأثيرًا.
انتهى عهد الهياكل التي أُنشئت لضمان "تفوق الغرب" تحت شعار "السلام العالمي". لم يعد هناك حاجة إليها، فقد برزت قوى أخرى على الساحة، وظهرت حقائق جديدة.
لقد خسر الغرب قوته، وأصبحت أوروبا قزمًا سياسيًا واقتصاديًا. وفي ظل هذا الوضع، أطلقت الولايات المتحدة مسارها الخاص، وتخلّت عن "عبء أوروبا". أما ذلك التراخي الذي عاشت فيه أوروبا لسنوات طويلة، فقد ارتدّ عليها الآن كابوسًا مرعبًا.
أكبر صدمة لأوروبا
حالة الذعر التي يعيشونها الآن بلغت حدًّا جعلت فريدريش ميرتس، المرشح المتوقع لمنصب المستشار في ألمانيا، يصرّح: "الأولوية الآن هي تعزيز أوروبا بأسرع ما يمكن حتى نتمكن من تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة خطوة بخطوة".
لكنهم في الحقيقة لم يكونوا يبحثون عن الاستقلال، بل كانوا يعيشون في راحة تامة تحت مظلة الحماية الأمريكية. ما يحدث اليوم ربما يكون أعظم صدمة تعرضت لها أوروبا منذ بداية حقبة الاستعمار.
"بيريسترويكا أمريكية" بدأت! وكل دولة ستفعل الأمر ذاته.
في الواقع، ما تفعله إدارة ترامب منطقي وصحيح تمامًا بالنسبة لهم. على سبيل المثال، قولهم "سنُسرّح خمسين ألف موظف من وكالة الاستخبارات المركزية، فلم نعد بحاجة إلى هذا الهيكل"، يعكس حقيقة واضحة في عصرنا الرقمي الحالي.
إنهم يعيدون تعريف بنية الدولة الأمريكية ودورها ومسؤولياتها داخل المؤسسات فوق الوطنية بما يتماشى مع الحقائق العالمية الجديدة. وستجد العديد من الدول، بما في ذلك تركيا، نفسها مضطرة للقيام بالأمر ذاته.
إنهم يعيدون هيكلة الدولة. مصادر القوة تغيّرت، وهم يعيدون تشكيلها وفقًا لذلك. كما يعيدون برمجة التكاليف العسكرية بما يتناسب مع الظروف الجديدة. إنها، ببساطة، بداية "بيريسترويكا أمريكية".
الولايات المتحدة قد تنجرف إلى العزلة
قد يكون هذا النهج صحيحًا داخليًا بالنسبة لهم، لكنهم لا يدركون تمامًا كيف ستنعكس تدخلاتهم في خريطة القوة العالمية على وضع الولايات المتحدة، أو إلى أي مدى قد تقودها إلى عزلة دولية.
إدارة ترامب تعمل على تدمير الهياكل العالمية، أو الانسحاب منها، حيث ترى كل مؤسسة وكل اتفاقية وكل منظمة غربية متمركزة في الولايات المتحدة وأوروبا تهديدًا يجب التخلص منه. لقد اعتبرنا ذلك بمثابة "محلية أمريكية" أو "إقليمية أمريكية"، لكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير.
شخصيًا، كنت أعلم أن ترامب سيفوز، وأن "عصر الاستثنائية" سيبدأ، وقد كتبت عن ذلك مرارًا. كما كنت مقتنعًا بأن "بيريسترويكا أمريكية" ستؤدي إلى نتائج إيجابية للعالم.
لقد توقعت أن إعادة هيكلة الولايات المتحدة داخليًا ستمنح العديد من الدول فرصة لالتقاط أنفاسها. لكنني لم أتوقع أن تسير الأمور بهذه السرعة وبهذا القدر من التسرع والافتقار إلى التخطيط المدروس.
لم تُشكَّل طاولة مفاوضات بين الولايات المتحدة وتركيا بعد
لم تُشكَّل طاولة مفاوضات مع الصين أو أوروبا بعد
نحن الآن نناقش نتائج "طاولة المفاوضات" التي أنشأتها إدارة ترامب مع روسيا. لكن أثناء ذلك، علينا أن نراقب جيدًا ردود الفعل الداخلية في الولايات المتحدة وتأثيراتها المستقبلية. قد لا تكون واضحة حتى الآن، لكنها ستُحدث اضطرابات عميقة داخل النظام الأمريكي.
نعم، لقد أُنشئت "طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا"، لكن لا تزال هناك طاولات أخرى سيتم إنشاؤها: "طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة وأوروبا"، و"طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة والصين"، و"طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة وتركيا".
إننا أمام مستقبل لن يكون فيه مكان للمؤسسات والآليات الدولية التقليدية، بل ستُعقد "طاولات مفاوضات كبرى" بين "الدول العظمى".
سيُحدّد شكل العالم الجديد بناءً على نتائج هذه الطاولات، وسنرى ملامحه تتضح تدريجيًا.
لماذا لا يتحدث ترامب عن تركيا؟
يكفي أن "طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا" قد دفعت بأوروبا نحو العزلة والتهميش. فماذا سيحدث إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من دول شرق أوروبا التي تشكل الحدود مع روسيا؟ ماذا لو سحبت قواتها من وسط أوروبا؟
هل يمكننا التنبؤ بالحروب التي قد تندلع في شرق أوروبا والبلقان عندما يُفرض حلٌّ قسري في أوكرانيا؟ هل نأخذ بعين الاعتبار كيف ستؤثر هذه التطورات على علاقات تركيا مع كل من أوروبا وروسيا؟
لقد تحدث ترامب عن روسيا وأوروبا. أطلق تصريحات صادمة حول كندا، وبنما، والمكسيك، وغرينلاند، وأوكرانيا، والعديد من القضايا الأخرى. لكن انتبهوا، فهو لم يتحدث عن تركيا على الإطلاق. لم يذكر أي شيء عن مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا.
طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة وتركيا: هنا ستندلع العواصف الكبرى
من المؤكد أن "طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة وتركيا" ستُقام. وقد تكون الأصعب ضمن عصر "المفاوضات الكبرى". فالتأثيرات لن تقتصر على ضفتي المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، بل ستمتد من البلقان إلى القوقاز وآسيا الوسطى، ومن جنوب آسيا إلى عمق إفريقيا، وبالطبع إلى كل شبر من الشرق الأوسط.
ستكون هذه الطاولة إما ساحة لصراعات كبرى، أو ساحة لتفاهم استراتيجي كبير. في البيئة القريبة، يتصدر المشهد وجود تنظيم بي كي كي الإرهابي في سوريا، وخريطة التوسع الإسرائيلي، والقواعد العسكرية الأمريكية في بحر إيجة، ومستقبل العلاقات التركية-الروسية.
لكن العنصر الأهم في هذه المفاوضات سيكون القوة التي اكتسبتها تركيا ونفوذها الواسع في مناطق مختلفة من العالم. أي خطأ في حسابات الولايات المتحدة بشأن قوة تركيا قد يؤدي إلى اضطرابات عميقة في قلب الجغرافيا العالمية، وقد يخلق عاصفة قوية تزيد من تآكل النفوذ الأمريكي.
ستُفتح لتركيا مجالات قوة غير مسبوقة
هل سيرتكبون مثل هذا الخطأ؟ لا أعتقد ذلك. بل على العكس، من المرجح أن يختاروا الاستفادة من هذه القوة. فليس هناك حاليًا في العالم أي قوة قادرة على إيقاف صعود تركيا في جغرافيتها الخاصة، أو داخل نطاق نفوذها، أو في شبكة تحالفاتها.
إن المساعي الأوروبية ستفتح مجالات قوة جديدة أمام تركيا. كما أن حالة عدم اليقين التي أحدثها ترامب ستخلق أيضًا فرصًا جديدة. ورغم انشغالنا بمناقشة العجز الأوروبي والشراكات بين الولايات المتحدة وروسيا، يجب أن نترقب فتح صفحة العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، حيث ستتضح الكثير من الأمور بعد ذلك.
إن العقلية الإمبراطورية التي تمتلكها تركيا ستتخذ القرار الأكثر صوابًا في هذه الحروب الكبرى لإعادة تقاسم النفوذ. فهي تمتلك الحكمة والقوة لاتخاذ الخطوات الأكثر تأثيرًا. وبإمكاننا القول بوضوح: هذا المسار سيمنح تركيا مجالات قوة غير مسبوقة.
"الصعود الثالث العظيم".. سنقوده مرة أخرى
التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال زيارته إلى أنقرة أمس، والتي قال فيها: "أطلعنا تركيا بشكل مفصل على المحادثات بين روسيا والولايات المتحدة، وشاركناها نتائج هذه المحادثات. فنحن على اتصال دائم مع تركيا في جميع المجالات، والرئيسان أردوغان وبوتين على تواصل مستمر"، تُظهر أن القوى الكبرى لن تحيد عن مسارها بغض النظر عن الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة، بل ستتحرك وفق أسس أكثر رسوخًا.
وستتبع تركيا المسار ذاته، حيث ستسعى إلى ترسيخ خريطة قوتها التي عملت على تشكيلها بدقة على مدى سنوات طويلة. فهذه الجغرافيا الواسعة، التي دمرها الاستعمار البريطاني، وجدت لأول مرة منذ قرن فرصة جديدة، ولن تضيعها هباءً.
وسيشهد التاريخ مرة أخرى أننا سنكون رواد "الصعود الثالث العظيم".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس