
فاروق أونالان (صحيفة يني شفق) - ترجمة وتحرير ترك برس
تركيا، على رقعة الشطرنج الفوضوية للسياسة العالمية متعددة المعادلات، تعزز بكل خطوة مكانتها كقوة إقليمية، بينما تتصاعد كظل متزايد في الأفق الاستراتيجي لإسرائيل. إن رقصة الطائرات المسيرة مثل "بيرقدار تي بي 2" و"عنقاء-3" في السماء، وصواريخ "توساش"، وضجيج دبابات "ألتاي" في الميدان، تحول قفزة تركيا في صناعة الدفاع إلى ملحمة حقيقية. هذه القوة التي ظهرت في ليبيا وقره باغ والصومال، تُشعر بها في سوريا بثقل مختلف تمامًا. الجيش التركي، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، ليس مجرد قوة تقليدية؛ فقدراته في الحرب الإلكترونية، وكوادره المدربة وفق معايير الناتو، وتكنولوجيا الطائرات المسيرة التي تثير صدى عالميًا، تجعل تركيا تخرج من كونها مجرد لاعب عادي.
مخاوفهم تتعمق يومًا بعد يوم
تأتي التحذيرات الصادمة من صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية في هذه النقطة بالذات: "طائرة تركية مسيرة تدخل المجال الجوي الإسرائيلي لم تعد خيالًا — بل أصبحت تهديدًا واقعيًا بحلول 2025." هذا اعتراف بأن التكنولوجيا والقدرات العسكرية التركية قد تقدمت بما يكفي لتتسلل إلى كوابيس تل أبيب. مخاوف إسرائيل لا تقتصر على الوجود التركي الميداني فحسب؛ بل إن البراعة الدبلوماسية لتركيا وثقتها بنفسها على الساحة العالمية تضاعف من هذا الخوف. تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب "أحب أردوغان" هي دليل واضح على أن الولايات المتحدة ترى تركيا قوة فاعلة في الشرق الأوسط.
بينما تتعامل تركيا مع واشنطن لتطوير صفقات إف-16، وتدير مشروع "السيل التركي" مع موسكو، وتوسع "طريق الحرير" مع بكين، وتوازن بشكل براغماتي مع طهران في سوريا، فإنها تبدو كسيدة للدبلوماسية الجيوسياسية. مشاريع مثل "تاناب" و"السيل التركي" تجعل أنقرة حجرًا أساسيًا في أمن الطاقة الأوروبي، وهو ما يعطي تركيا رغم التقلبات الاقتصادية ورقة ضغط مهمة. قيادتها للقضية الفلسطينية، وخطابها الذي يتردد في العالم الإسلامي، وقوتها الناعمة الممتدة من إفريقيا إلى البلقان، لا تجعلها عملاقًا عسكريًا فحسب، بل أيضًا مركز جذب روحي. لكن هذه القوة تنمو في عيون إسرائيل كسحابة عاصفة. تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر: "نحن قلقون من الدور السلبي لتركيا في سوريا ولبنان والمنطقة"، تكشف أن تل أبيب لا ترى أنقرة كمنافس فحسب، بل كخطر وجودي. اتهامات ساعر لتركيا في حربها ضد تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي ومحاولتها —من وجهة نظره— "احتواء سوريا"، تظهر مدى عمق هذا الخوف.
التكنولوجيا التركية ستتحدى "القبة الحديدية"
تحذير "جيروزاليم بوست" يكشف بُعدًا جديدًا من هذا التوتر: "إمكانية تهديد الطائرات المسيرة التركية للمجال الجوي الإسرائيلي" لم تعد مجرد تكهنات. وفقًا للجنرال المتقاعد عيران أورتال، رئيس مركز "دادو" السابق في الجيش الإسرائيلي، فإن هذا أصبح خطرًا ملموسًا بسبب "قدرات تركيا المتطورة في الطائرات المسيرة، والحرب الإلكترونية المتقدمة، وتدريبها وفق معايير الناتو". كما يؤكد أورتال، تفوق تركيا التكنولوجي يشير إلى قدرتها على اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية. تقرير "لجنة ناغل" الصادر في يناير 2025 يوضح الصورة أكثر: الوجود العسكري التركي في سوريا وُصف بأنه "أكثر خطورة حتى من التهديد الإيراني". التقرير يشير إلى أن القواعد التركية في شمال سوريا، وأسراب الطائرات المسيرة، وأنظمة الحرب الإلكترونية، قد تقيد حركة إسرائيل في مرتفعات الجولان. اكتمال اختبارات الطائرات المسيرة الشبحية مثل "عنقاء-3" ونزولها إلى الميدان في 2025 يزيد من هذه المخاوف. بينما تتحدث إسرائيل عن الصواريخ الباليستية الإيرانية، فإنها تواجه أمام الطائرات المسيرة التركية ذات الضربات الدقيقة وبنيتها التحتية المدعومة من الناتو قوة أكثر تعقيدًا.
أنقرة حذرة لكنها واضحة
هذا المشهد يعمق أيضًا العزلة الاستراتيجية لإسرائيل. دعم تركيا لحركة "حماس"، وتأييدها الصريح لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، يضع تل أبيب تحت الضغط الدبلوماسي. تصريحات أردوغان في 30 مارس عندما قال: "نسأل الله أن يدمر إسرائيل الصهيونية"، أحدثت تأثيرًا زلزاليًا في الإعلام الإسرائيلي. "جيروزاليم بوست" فسرت هذا التصريح بأنه "إشارة إلى حتمية الصدام العسكري المباشر"، وكتبت أن تركيا تتغلغل بعمق عند حدود إسرائيل. هذه التصريحات ليست مجرد خطاب؛ فقيادة تركيا للقضية الفلسطينية وشعبيتها في العالم الإسلامي تسرع من عزل إسرائيل إقليميًا. لكن تركيا، في الوقت نفسه، تعلن عن آلية لمنع الصدام مع إسرائيل في سوريا، وهو ما يثبت أن أنقرة قوية وحذرة في آن واحد — تنتقد إسرائيل لكنها ترسل في الوقت نفسه رسائل واضحة مباشرة أو غير مباشرة.
"تصويت ثقة لأردوغان"
أثينا، من جانبها، تتخبط في دوامة من الغموض. الإعلام اليوناني ينقل تصريحات ترامب المديحية لأردوغان بعبارات مثل "صفق لأردوغان أمام أعين نتنياهو"، بينما تؤكد صحيفة "تو فيما" أن هذه الكلمات تعني "تصويت ثقة" لأردوغان. تلفزيون "سكاي" اليوناني يسلط الضوء على اقتباس "أردوغان فعل ما لم يستطع أحد فعله منذ 2000 عام"، بينما تعكس صحيفة "تا نيا" بقولها "ترامب اختار تمجيد أردوغان" قلق أثينا. اليونان تخشى أن يهز انتصار تركيا في سوريا توازنات بحر إيجة والمتوسط، خاصة مع توقيع أنقرة اتفاقات عسكرية مع دمشق تحت قيادة بشار الأسد، بينما تبحر السفينة التركية "تي جي غي أناضولو"، أول حاملة طائرات مسيرة في العالم، في بحري إيجة والمتوسط. اليونان تفسر هذا الدعم الأمريكي الواضح لتركيا بأنه قد يدفع واشنطن لوضع اليونان في المرتبة الثانية، خاصة مع تأثير أردوغان في دمشق، مما يثير تساؤلات في أثينا مثل: "هل ستكون تركيا أكثر جرأة الآن؟". صحيفة "Greek City Times" تطرح تساؤلات حول دور اليونان في هذه المعادلة الجديدة، مستشهدة بتصريحات نتنياهو: "يجب أن نتجنب المواجهة مع تركيا".
المنافسون قلقون.. والحلفاء معجبون
استثمارات تركيا في صناعة الدفاع بقيمة 20 مليار دولار عام 2024، ورحلات اختبار الطائرة الحربية "قآن"، وإطلاق السفن المحلية مثل "تي جي غي أناضولو"، تظهر عزم تركيا. حركة المراكز المالية في إسطنبول، ودورها الاستراتيجي في ممرات الطاقة، وشبكات المساعدات الإنسانية في إفريقيا، تجعل هذه القوة متعددة الأبعاد. في عيون إسرائيل، تركيا ليست عدوًا فوضويًا مثل إيران، ولا تهديدًا محدودًا مثل حزب الله؛ إنها جزء من الناتو، عملاق اقتصادي، ورائد تكنولوجي. تحفظات حكومة تل أبيب والمحللين ولجنة "ناغل" تكمن في هذه الحقيقة بالذات: تركيا في ربيع 2025 ليست مجرد لاعب في المنطقة، بل قوة تعيد كتابة القواعد. بقوتها العسكرية، براعتها الدبلوماسية، وثقلها الميداني، أنقرة تدفع المنافسين إلى القلق، والحلفاء إلى الإعجاب. هذه هي اللحظة التي تصعد فيها تركيا كملحمة وتحدٍ في آن واحد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!