
محمد الشبراوي حسن - الجزيرة مباشر
يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
نَبِّئاني إِن كُنتُما تَعلَمانِ * ما دَهَى الكَونَ أَيُّها الفَرقَدان
غَضِبَ اللَهُ أَم تَمَرَّدَتِ الأَر*ضُ فَأَنحَت عَلى بَني الإِنسانِ
ذلك مطلع قصيدة في رثاء “مسينا”، تلك المدينة الإيطالية التي ضربها زلزال مدمر عام 1908، وتوجع حافظ إبراهيم لما أصابها.
ربما يكون البيتان السابقان لسان حال كثيرين، سواء في عصرنا هذا أو ما قبله، إذ تثور تساؤلات عند وقوع الزلازل وغيرها من الكوارث الطبيعية، وهذا هو الحال الذي تجدد مع وقوع زلزال إسطنبول في الـ23 من إبريل/نيسان 2025.
وبين الإيمان والبرهان، والتكامل بين العقل والوجدان، والانسجام بين الاعتبار بالنذر الإلهية، والبحث في تعليل الظواهر الطبيعية بتدبر السنن الكونية، يجب التعامل مع الكوارث والابتلاءات والحوادث الكونية مثل الزلازل وغيرها من الظواهر الطبيعية.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، ويقول سبحانه: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}.
لقد شرعت في كتابة هذه السطور في وقت تملك فيه الذعر الشديد سكان إسطنبول، على إثر الزلزال القوي الذي شهدته المدينة الأربعاء الماضي، والذي بلغت قوته 6.2 على مقياس ريختر، ودام 13 ثانية، وأفادت التقارير أنه أسفر عن إصابة أكثر من 200 شخص خلال محاولتهم الفرار من المباني، كما تضرر أكثر من 6500 مبنى. لا تُقارن نتائج هذا الزلزال بنتائج زلزال كهرمان مرعش في جنوب تركيا عام 2023، الذي ترتبت عليه نتائج كارثية غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث، ما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن.
ولكن تحت ضغط تضارب آراء خبراء الزلازل وتواصل الهزات الارتدادية، يرتفع منسوب التوتر والذعر بين سكان إسطنبول، ويزيد تخوفهم من زلزال أكبر؛ مما جعل كثيرين يلوذون بالأماكن المفتوحة والمساجد وساحات المدارس، ولم تدخر السلطات جهدا لتوفير كافة السبل اللازمة لتدبير أمور المواطنين وطمأنتهم.
واصلت كتابة هذه السطور بعد الزلزال، متأملا على وقع 445 هزة ارتدادية أحصتها الجهات الرسمية حتى يوم السبت 26 إبريل/نيسان الجاري، مع توقعات بالمزيد. ليس سهلا أن تدون فكرتك مع ترقب زلزال، خاصة إذا كنت من سكان الطابق الحادي عشر؛ إذ يصبح الترقب في أعلى درجاته. وفي ظل تواصل الهزات الارتدادية، أعتبر نفسي أفضل حالا من ساكني الطوابق العليا، خاصة سكان ما بعد الطابق العشرين في العمائر الشاهقة الارتفاع. لكن الثقة في الله والتسليم بقضائه، والتأمل في تصريفه سبحانه للأحداث، تجلب السكينة للنفس، وتجبُّ كل خوف وتوتر.
هذا الزلزال، وما صاحبه من لغط كثير ما زال مستمرا حول زلزال أكبر منه تنتظره إسطنبول، وغير ذلك من الظواهر والحوادث، كل هذا يجعل المسلم يقف متسائلًا: أهي رسالة إلهية من الله لعباده أم محض ظاهرة طبيعية، باعتبارها نتيجة تحرك للقشرة الأرضية، وغيرها من الأسباب العلمية؟
في هذا الزمن الذي عمت فيه الغفلة، من الخطأ أن يقف من يفسرون الظواهر الطبيعية -ومنها الزلازل- عند حدود التفسير العلمي فقط، دون التساؤل: لماذا زلزل الله الأرض؟ بل إن هذا السؤال هو الأهم، ويجب أن يسبق السؤال عن التفسيرات العلمية، ولكنه في نفس الوقت لا يتنافى مع تلك التفسيرات التي تُعد من التفكر الواجب في الكون.
يُفهم مما جاء في القرآن والسنة، أن الزلازل هي نتيجة للعلاقة بين الإنسان، خليفة الله في الأرض، وتلك الأرض المستخلف فيها.
وكما جاء في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإنه عند انتشار المعاصي والفساد، وعند قيام القيامة، وعند البعث من القبور، في هذه هي الأحوال الثلاثة تتزلزل الأرض.
عندما تساءلت عن أول زلزلة حدثت في التاريخ، وجدت الإجابة عندما قرأت نسخة من كتاب “كشف الصلصة عن وصف الزلزلة” للأمام السيوطي، أحد أبرز علماء الإسلام في القرن التاسع الهجري، وقد اعتنى بتحقيق الكتاب أستاذ التاريخ الدكتور محمد كمال الدين عز الدين.
يُعد هذا المصنَّف القيم مرجعا بالغ الأهمية في دراسة الزلازل من منظور إسلامي، وهو من أول الكتب التي تناولت الزلازل بشكل مستقل في التراث الإسلامي، وقد جمع فيه السيوطي الروايات المتعلقة بالزلازل من كتب الحديث والتفسير والتاريخ.
ذكر الإمام السيوطي في مصنفه أن أول زلزلة في التاريخ كانت يوم قتل “قابيل” أخاه “هابيل” معتمدا على ما جمعه من النصوص الواردة في متون كتب الحديث والفقه. وقد تناول الكتاب الزلازل التي حدثت قبل الإسلام، ثم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده، وتناول أيضا الزلازل المستقبلية المرتبطة بقيام الساعة.
في هذا المقال، نحاول أن نقرأ هذه الزلزلة قراءة متأمل في تلك الحادثة ومعتبر.
إن الزلازل آيات من آيات الله تُظهر قدرته جل وعلا وهي للتفكر والتوبة، وتذكير للمسلمين بعظمة الله وقدرته.
إن التعرض للزلزال وغيره من الظواهر الطبيعية فيه تحذير للأمة لتستفيق من غفلتها؛ لأن الزلازل قد تكون عقوبة أو تذكيرا من الله تعالى لعباده حتى يعودوا إليه؛ ولذلك فهي ليست مجرد ظواهر عابرة، بل هي دعوة إلى الرجوع إلى الله تعالى، والتوبة من المعاصي.
إن الأحاديث والآثار النبوية تنبهنا إلى الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الزلازل، التي منها الذنوب والمعاصي، ولذلك فلتنظر الأمة فيما استشرى فيها من مخالفات شرعية.
يخبرنا التاريخ أن الزلازل مثلت لحظات حاسمة في تاريخ الجماعة الإنسانية؛ إذ كانت نقطة تحول أو نهاية في حياة الأمم، ومؤشرا على هزات حضارية كبرى عبر التاريخ الإنساني.
إن الزلازل ليست فقط كوارث طبيعية من باب العقاب، بل إنها عبرة إلهية، وتنبيهات ربانية، ونداءات خفية في خضم زمن صاخب، أن يا عباد الله “اتقوا الله” و”وفروا إلى الله” و”ارجعوا إلى الفطرة السوية”، قبل أن تأتيكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون.
ليكن الزلزال فرصة للعودة إلى الله تعالى، وللإصلاح، وتجديد الإيمان، وليكن خطابنا منطلقا من توظيف تلك الابتلاءات للاعتبار والإعمار، والمراجعة الذاتية، والإصلاح الشامل للأفراد والمجتمعات انطلاقا من هدى الإسلام.
وما بين الرسائل الإلهية والظواهر الطبيعية يقف العلماء المسلمون موقفا متوازنا؛ فالعلم يفسر “كيفية” حدوث الزلزلة، والدين يقدم الإجابة عن “لماذا”. ليس هناك تنافٍ بين العلم والدين في النظرة إلى الزلازل، بل إن العلم والدين يتلاقيان ولا يتعارضان، ويسيران جنبا إلى جنب لإرشاد الناس وتوعيتهم.
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ}.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!