سليمان سيفي أوغون - يني شفق - ترجمة وتحرير ترك برس

للمسارات الحديثة طابع يسحبُ التاريخ إلى الأسفل. ظهر هذا بشكلٍ صارخٍ خلال الثورة الفرنسية حول مبدأ المساواة. أول من طرح هذه الفكرة كانوا البرجوازيين، الذين وقفوا في منتصف الهرم الاجتماعي، وكانوا يرفعون قيمة المساواة في مواجهة الأرستقراطيين المتصدرين للهرم. لكن منذ اللحظة التي نُطق فيها بمبدأ المساواة، لم يعد الأمر يقتصر على مساواة البرجوازيين بالأرستقراطيين، بل امتد حتمًا ليشمل "الطبقات الدنيا". فمفاهيم مثل "الشعب" و"العوام" ثم "الأمة" وغيرها، تؤكد على الطبقات الدنيا وتجعلها فاعلةً في التاريخ.

المشكلة كانت في كيفية التوفيق بين مفهوم الحرية، الذي رفعته الثورة أيضًا، وبين المساواة. لأن الحرية تشير حتمًا إلى الفرد، في حين أن المساواة مع العوام تقيد الفردانية. (هذا بالضبط ما تشتكي منه الأطروحات الليبرالية الكلاسيكية). لأن الفردانية تنتج تمايزًا بين الأفراد الذين تسوّيهم قيم المساواة ضمن سياق "عوامي" مفترض فضيلته. هذه الاختلافات قد تتضمن تناقضاتٍ تزعج "الطبقة الدنيا". باختصار، المساواة في نهايتها المطلقة تنتج التماثل، بينما الحرية تنتج التمايز والاختلاف، ومن هنا ينشأ التناقض.

في الممارسة، لم تحقق قيم المساواة ما كان متوقعًا. فقد تحققت بعض النجاحات، ولو محدودة، على المستوى السياسي والقانوني. لكن على المستوى الاقتصادي، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا. فالجميع يعلم أن ممارسات العالم الحديث ولّدت تفاوتاتٍ أعمق بكثير من السابق. لكن ثمة نقطة أخرى أريد التركيز عليها: الرأسمالية جعلت 50% على الأقل من الجماهير "اللومبينية" (المنفصلة عن جذورها الزراعية والمكدسة في المدن) قوة عمل. فـ"الأمة" في نظر الرأسمالية هي قوة إنتاج واستهلاك. التنظيم الاجتماعي العقلاني الآلي، المركّز على تعظيم الربح، استغل الجماهير عبر سياسات عمل قاسية. (الثورة السوفيتية خرجت بمزاعم إصلاح هذا الوضع، لكنها أضرت بالمساواة السياسية والقانونية، بل ودمرت الحريات). كان الاسم الآخر لهذا النظام الانضباطي هو "التحضر". وقد شرح لنا مفكرون مثل سيغموند فرويد ونوربرت إلياس وميشيل فوكو كيف أن عمليات التحضر هذه تضمنت انضباطًا قمعيًا خانقًا. وكان تشكيل الهوية جزءًا لا يتجزأ من ذلك.

في العوالم القديمة، يمكن الحديث عن روابط وولاءات وانتماءات تشكلها العُرف والتقاليد. لكن تتبع الهويات في تلك الأزمنة سيكون، في أحسن الأحوال، تناقضًا تاريخيًا. الهوية هي جزء من الحداثة. فـ"تـهوية" الأفراد والجماعات هي انعكاس لنظام الرأسمالية التوثيقي ونزعتها للسيطرة.

الهويات الحديثة تقتصر على هوية المواطنة. والمأمول أن تكون هذه الهويات منزوعةً من الانتماءات الثقافية للأفراد، ومبنيةً على الواجبات والحقوق والحريات، فتكون باهتةً وغير لامعة. لكن سرعان ما اتضح أن الهروب من الثقافة مستحيل. الثقافة الوحيدة التي فتحت الحداثة الباب لها هي الثقافة "العضوية" المشتركة، التي صاغها ورفعها مثقفون مختلفون. الثقافات العضوية، رغم أنها مستمدة من أوضاع ثقافية أصيلة، إلا أنها في النهاية تعبّر عن انفصال عنها. وهكذا، تنضم الثقافات العضوية إلى دائرة الهويات بخصائصها التي تستولي على الأفراد، وتدعم رغبة الرأسمالية في ربط الجماهير ومراقبتها والتحكم بها.

الأزمات الهيكلية المتأصلة في الرأسمالية جعلت الهويات العضوية والمصنّعة بلا معنى مع مرور الوقت. نهاية الثمانينيات كانت لحظة فارقة حيث بدأت هذه الأزمات تظهر بقوة. بدأنا نشهد انفجارًا ثقافيًا كان مكبوتًا سابقًا. يمكن تسميته "عودة المكبوت". فالتشكيلات الفكرية والأيديولوجية الجديدة اندفعت في سباق لإظهار الثقافات المكبوتة على أساس الجنس أو العرق أو الدين. الغريب أن الثقافات التي يُشار إليها على أنها "مكبوتة" كانت في الغالب ذات طابع جماعاتي (كوميونيتاري). والأغرب أن تحريرها من "كبتها" تطلب تعبئة مفهوم الحرية، الذي بطبيعته يركز على الفردية. باختصار، ما كان في الأصل لفائدة الفرد جُند لخدمة الجماعة. نرى هذا بوضوح في إظهار الهويات العرقية المكبوتة. وهذا ببساطة هو صنع "قوميات مصغرة". كل قومية مصغرة هي رفض للقومية السائدة. لكن المشكلة أن الشكاوى من القومية تحوّلت إلى قومية أخرى، بل وانحدرت إلى لغتها. وهكذا، فإن "المكبوت" لجأ إلى لغة "الكابح".

طبعًا، حاول البعض تخفيف هذا عبر التأكيد الليبرالي على العالم الثقافي للفرد، لكن من المستحيل منطقيًا ربط هذا بالحرية. سواء أعجبنا ذلك أم لا، الفردانية تعني أن يكتسب الفرد مسافةً ما من الجماعة التي ولد فيها. هذا هو التحرر. اجتماعيًا، من المشكوك فيه أن نجمع بين التركيز على الجماعة (المليئة بالتقاليد الصارمة والهرمية) وبين الحرية. لكن في خِضَمّ حالات النشوة تلك، جرى "تمرير" هذا التناقض. والأغرب أن المفهوم الذي توج الخطاب المعارض الناشئ كان مرة أخرى "الهوية". انفجارات الهوية، بالنسبة لبعض الأوساط الفكرية التي استطاعت تخليص أذهانها من هذه النشوة، كانت تعني "عصبية قبلية جديدة". فمثالية التعددية الثقافية والديمقراطية الثقافية تحولت على الأرض إلى "بداوة ما بعد حداثية". لقد ثبت أن من كتبوا، مثل تيري إيجلتون، بأن سياسات الهوية التي صيغت في مقاهي باريس أو كراسي الجامعات الكندية سوف تتردد في الشوارع كحروب دم، كانوا محقين.

واللافت أن الرأسمالية لم تكن منزعجةً إطلاقًا من هذه الديناميكيات. بل على العكس، فإن الأوساط النيوليبرالية الأناركية-الرأسمالية، التي تشتكي من الدولة والأمة، لم تتردد في دعم هذه الحركات، بل حتى في إنشاء صناعتها وإدارتها. أسباب هذا تتطلب مقالًا آخر.

عوالمنا الثقافية الأصيلة هشةٌ جدًا. لا تتحمل أي تدخل، مهما كانت النوايا. تعاملت الحداثة بقسوةٍ مع عوالمنا الثقافية. ما يحافظ على أصالة الثقافة هو أنها غير مثقلة بالهوية. الثقافة الأصيلة هي التي تعيش في حالة عدم وعي، لها دوراتها الخاصة، وهي بذاتها ولذاتها. لكن عندما تتحول هذه الحالات إلى موضوع وعي عبر تدخلات فكرية، وخاصة بدوافع سياسية، وتصبح "لذاتها"، عندها تخرج الأمور عن السيطرة. الثقافة عندما تصبح موضوع وعي تفقد أصالتها وتصبح مصنعة. الحالات الثقافية الحقيقية في عالم اليوم تكمن في مسارات أخرى، بعيدة عن الصراعات الثقافية الحالية، مساراتٍ تتساوى فيها جميع الأطراف المتنازعة دون أن يشعروا.

عن الكاتب

سليمان سيفي أوغون

كاتب في صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس