
ترك برس
مع تعقّد المشهد السوري بعد الأسد، تبرز تركيا كفاعل محوري يجمع بين الردع العسكري والدعم المؤسسي. وفي ظل تعثر اتفاق دمشق–قسد وتصاعد نفوذ الدروز بدعم إسرائيلي، تواجه أنقرة تحديًا استراتيجيًا لإعادة تشكيل الأمن في سوريا بما يضمن استقرارها وأمنها القومي.
وفي مقال له على موقع "فوكس بلس"، سلط الكاتب والباحث التركي عمر أوزقيزيلجيك، الضوء على الدور التركي في تأسيس وترسيخ الأمن في سوريا، في ظل التطورات التي يشهدها البلد العربي منذ إسقاط نظام الأسد أواخر العام الفائت.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
دخلت سوريا مرحلة جديدة بعد سقوط نظام الأسد، غير أن هذه المرحلة تتسم بديناميكيات انتقالية هشّة وتهديدات أمنية متعددة الأبعاد. في تقرير بعنوان "التحديات السياسية الداخلية في سوريا" أعده مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، بالاشتراك مع الباحث فاضل حنصي، تم تحليل أبرز مجالات المخاطر في هذه المرحلة. كما ناقش تقرير سابق بعنوان "الدروز بعد الثورة وإسرائيل" الدور المتزايد لإسرائيل في جنوب سوريا عبر البوابة الدرزية.
ورغم تعدد التهديدات، فإن من الواضح أن سوريا ليست وحيدة في مواجهتها، إذ تلعب تركيا دورًا محوريًا في هذا السياق. فمنذ عام 2011، وقفت تركيا إلى جانب الشعب السوري، وهي الآن في موقع استراتيجي يسمح لها بالمشاركة الفاعلة في بناء الأمن الإقليمي وإعادة هيكلة الدولة السورية. إلا أن هذا الدور يتطلب إطارًا استراتيجيًا واضحًا، لا سيما فيما يتعلق بدمج "قسد" في النظام السوري، والتعامل مع الحروب بالوكالة التي تديرها إسرائيل عبر المجموعات الدرزية.
قسد وبقايا النظام: تركيا كعنصر توازن
يشير التقرير إلى أن فشل تنفيذ اتفاق 10 مارس 2025 بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) له تأثير مباشر على مستقبل سوريا السياسي والأمني. ويُبرز التقرير أن قسد ترى نفسها خارج إطار عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني (PKK)، وتعتبر أن هذه العملية هي شأن بين تركيا وPKK فقط. بناءً على ذلك، تفترض قسد أن التهديد العسكري التركي قد انتهى، وأنه لن يكون هناك تدخل تركي ضدها بعد الاتفاق مع دمشق.
وهنا، يتضح أن الطريق الأكثر فاعلية أمام تركيا يتمثل في دمج الردع العسكري مع الضغط الدبلوماسي المستدام. فبما أن وحدات YPG تشكل العمود الفقري لقسد، وهي في الأساس فرع سوري لحزب العمال الكردستاني، فإن موقف تركيا لا يتعلق فقط بوحدة الأراضي السورية، بل يمس بشكل مباشر أمنها القومي وحدودها الجنوبية.
كما يلفت التقرير إلى اختراق بقايا النظام لصفوف قسد، بدعم روسي عبر قاعدة القامشلي، وهو ما يُشكل تهديدًا مزدوجًا لتركيا. في ضوء ذلك، من الضروري أن توضّح أنقرة رؤيتها الأمنية لكل من قسد والمجتمع الدولي، وتذكّر الأطراف المعنية بقدرتها العسكرية الرادعة، خاصة مع استمرار المفاوضات بين دمشق وقسد بوساطة فرنسية وأمريكية.
الدروز وإسرائيل: التهديد الصاعد في الجنوب
أما جنوب سوريا، فيواجه تحديًا آخر يتمثل في تصاعد نفوذ الدروز المدعومين من إسرائيل. فقد بدأت مجموعات درزية بقيادة الشيخ حكمت الهجري بتلقي دعم مباشر من إسرائيل، وفرض نفوذها في محافظة السويداء. يأتي هذا بالتزامن مع ضربات جوية إسرائيلية تستهدف مواقع النظام السوري وتقديم دعم استخباراتي وعسكري للفصائل الدرزية.
يشكل هذا التحالف الناشئ تهديدًا مزدوجًا لكل من وحدة الأراضي السورية وأولويات تركيا الأمنية، إذ أن هذه التطورات قد تعقّد الصراع مع قسد وتمنحها دعمًا غير مباشر، كما تُضعف قدرة النظام السوري على استعادة السيطرة المركزية.
من هنا، ينبغي على تركيا أن تراقب عن كثب التعاون الدرزي–الإسرائيلي في الجنوب، وتسعى إلى تفعيل مسار دبلوماسي إقليمي بالتعاون مع الدول العربية، مع إمكانية لعب دور "الضامن" في الجنوب. إذ تُشير المؤشرات إلى أن الدروز يبحثون عن ضمانات أمنية قصيرة الأمد، لا عن تحالفات استراتيجية طويلة الأجل مع إسرائيل.
وفي هذا السياق، فإن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في سوريا قد يُعيد رسم التوازنات الإقليمية، ويُقيّد حرية إسرائيل في ضرب سوريا، كما يحدّ من اندفاع قسد نحو مغامرات عسكرية ضد الجيش السوري، ويُعزز من قدرة الدولة السورية على مواجهة تنظيمات متطرفة مثل داعش.
إصلاح القطاع الأمني: تركيا ونموذج تصدير المؤسسة العسكرية
يتناول التقرير أيضًا مسألة إعادة بناء جيش سوري مركزي ومهني. رغم أن قوات الأمن الداخلي في إدلب وريف دمشق تعمل خارج إطار الجيش الرسمي، إلا أنها أثبتت فعاليتها في تأمين المناطق التي تنتشر فيها.
غير أن الجيش السوري بحاجة إلى إعادة تأهيل شاملة على مستوى التدريب، العقيدة العسكرية، والانضباط. وهنا تبرز فرصة لتطبيق نموذج تركيا في "التدريب والتجهيز" كما فعلت في ليبيا، الصومال وقطر.
لكن الدعم التركي يجب ألا يقتصر على البُعد العسكري، بل يشمل:
- تطوير المناهج الأكاديمية العسكرية
- التدريب على حقوق الإنسان
ترسيخ العلاقة المؤسسية بين المدنيين والعسكريين
كما أن اعتماد أنظمة تسليح تركية حديثة بدلاً من الأنظمة السوفيتية القديمة، يفتح الباب أمام إعادة تأسيس جيش سوري يعمل وفق معايير الناتو ويعتمد على الصناعة الدفاعية التركية، مما يمثل نقلة استراتيجية في تاريخ الجيش السوري.
الدستور والبرلمان: اختبار القوة الناعمة التركية
تعدّ عملية صياغة الدستور الجديد وإنشاء برلمان انتقالي خطوات محورية لإعادة بناء الشرعية السياسية في سوريا. مشاركة شخصيات معارضة تمنح العملية مصداقية، ويمكن لتركيا أن تُبرز قوتها الناعمة من خلال دعم المجتمع المدني السوري وتعزيز انخراطه في هذه المرحلة.
يتطلب الأمر أن يكون البرلمان المرتقب شاملاً وفعالاً، لأن عليه مسؤولية إدارة الانقسامات المجتمعية والتوترات الداخلية التي طال أمدها. في الوقت نفسه، فإن استبعاد قسد من هذه العملية قد يؤدي إلى انشقاقات سياسية خطيرة، وعلى تركيا أن تتعامل مع ذلك بمرونة استراتيجية.
ختامًا، فإن دعم تركيا لمسار دستوري تقوده أطراف سورية، بعيدًا عن التدخلات الخارجية، يمثل فرصة لتثبيت الاستقرار وتقليل هشاشة الوضع الداخلي في سوريا. كلما زادت شرعية الدستور الجديد بين السوريين، كلما اقتربت البلاد من تجاوز مخاطر الانهيار وإعادة بناء مؤسساتها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!