
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي إبراهيم قراغول، تحليلًا معمّقًا لحادث سقوط طائرة الشحن العسكرية التركية في الأجواء الجورجية، بوصفه حدثًا يتجاوز إطار “الخطأ الفني” إلى فضاء الشبهات الجيوسياسية.
يربط الكاتب بين المشاهد التي ظهرت للطائرة قبل سقوطها والاحتمالات التقنية للهجوم، وبين السياقات الإقليمية المتوترة من القوقاز إلى شرق المتوسط. كما يستعرض الجهات المحتملة التي قد تقف خلف عملية إسقاط مُحتَملة — من الهند إلى روسيا وأوكرانيا وصولًا إلى إسرائيل — في ضوء صراعات النفوذ، وتقاطعات العمل الاستخباراتي، ومحاولات كبح النفوذ التركي.
وينتهي إلى التأكيد على أنّ ما يبدو حادثًا قد يكون حلقة في سلسلة حرب خفية تُدار ضد تركيا، وأن التحقيقات الرسمية — مهما كانت نتائجها — لن تُلغي مشروعية الأسئلة الثقيلة التي فرضها المشهد. وفيما يلي نص التقرير الذين نشرته صحيفة يني شفق:
إن سقوط طائرة الشحن العسكرية من طراز سي–130 التي كانت تقلّ قواتنا الخاصة العائدة من مراسم النصر في أذربيجان، بعد دخولها المجال الجوي لجورجيا مباشرة، واستشهاد 20 من أبناء الوطن، أغرق قلوبنا بالحزن. نسأل الله الرحمة لشهدائنا، ونتقدّم بأحرّ التعازي لعائلاتهم وذويهم ومحبيهم، وللقوات المسلحة التركية، ولكل تركيا. نحن حزينون جدًا.
إن شعبنا وتاريخنا وجغرافيتنا قائمون على أولئك الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الوطن. هكذا كان الأمر منذ قرون طويلة، وهكذا يستمر اليوم. من الأناضول إلى الحجاز، ومن القوقاز إلى البلقان، ومن غزة إلى اليمن، لا توجد بقعة إلا وفيها قبور شهدائنا. إن جغرافيتنا بأكملها، مدينةً مدينة، وشارعًا شارعًا، ومترًا مترًا، قد امتزجت بدماء الشهداء.
نحن نقدّم الشهداء بلا انقطاع منذ ألف عام.
ذاكرتنا حيّة، وذكرياتنا عميقة.
لا نبكي… نحن نأخذ بثأرنا دائمًا!
منذ دخولنا الأناضول عام 1071، ونحن نقدّم الشهداء بلا انقطاع. وفي حرب البلقان والحرب العالمية الأولى تكبّدنا خسائر هائلة كانت أشبه بالإبادة؛ مئات الآلاف من الشهداء، وملايين المهجّرين، وجغرافيا كاملة انهارت فوق صدورنا.
داخل تركيا، قدّمنا آلاف الشهداء بسبب الإرهاب. وحتى خلال الصراعات الأمريكية–السوفياتية التي دارت فوق تركيا زمن الحرب الباردة، فقدنا آلافًا من أبناء شعبنا.
ومع ذلك، نحن شعب لا يبكي. حتى حين كانت تُرتكب مجازر بحقّنا في أقاصي الأناضول أو على حدودها، كنّا نقف بصمت وصبر وصلابة، لا نشكو أحدًا ولا نطلب المساعدة من أحد. لكننا لم ننسَ شيئًا. كنّا نعرف أننا سنحاسب في الوقت المناسب. ذاكرتنا حيّة، وذاكرتنا التاريخية عميقة.
علينا أن نكون أذكياء، وأن نعرف طعم الانتقام والخيانة والعداء، لأننا مررنا بالكثير!
نعم، سقوط طائرتنا يُعدّ "حادثًا" — على الأقل حتى تنتهي التحقيقات الفنية. والتقرير المنتظر — مهما كانت تفاصيله المُعلنة — سيُظهر الحقيقة.
هل هو خطأ تقني؟ خطأ من الطيار؟ سوء أحوال جوية؟ أم انفجار داخلي؟ أم هجوم بصاروخ؟ أم نوع من أنواع الحرب الإلكترونية؟ سنعرف ذلك بالتأكيد.
لكننا ـــ نحن الذين شهدنا في هذه الجغرافيا وداخل تركيا كمًّا هائلًا من الأحداث ـــ أصبح لدينا وعيٌ مُسبق بأن كل "حادث" قد يكون تخريبًا، وكل واقعة قد تحمل شبهة. ونحن محقّون في ذلك، بل مضطرون إليه. الذكاء يعني متابعة أدوات الانتقام والعداء والخيانة جيدًا.
ما الذي تقوله تلك المشاهد؟
ذيل الطائرة منفصل… الأجنحة مشتعلة… هيكل الطائرة مكشوف.
إن سقوط طائرة قوية بأربعة محركات بهذه الطريقة يثير علامات استفهام كبيرة. ومن لا يطرح الأسئلة يفتقر إلى الحسّ. وخصوصًا إذا حدث ذلك بعد مراسم القوة التي أظهرتها تركيا وأذربيجان وباكستان في باكو، فسيكون من الطبيعي أن نطرح أسئلة أكبر.
لقد شاهدنا جميعًا مشاهد سقوط الطائرة. كانت مرعبة. وحتى نشر هذه اللقطات بتلك السرعة يثير التساؤلات. في عالمٍ مليء بوسائل الاتصال قد يبدو الأمر طبيعيًا، إلا أنه يستدعي البحث. الذيل منفصل… الأجنحة تشتعل وتدور وهي تهوي… الهيكل ممزق… داخل الطائرة ظاهر للعيان. وكأنها لقطة من فيلم.
هل هو انفجار داخلي؟ أم هجوم خارجي؟
“الحادث” أسلوب من أساليب الهجوم!
خبراء الطيران يؤكدون أن حادثًا كهذا لطائرة بأربعة محركات أمرٌ شديد الندرة، وأن نسبة الحوادث لهذه الطائرات منخفضة جدًا، وأنّ المشاهد لا تشير إلى طقس سيئ أو خطأ طيار، وأن احتمال الانفجار الداخلي أو الهجوم الخارجي وارد. وهناك احتمال آخر: خروج أحد المراوح وضربها لجسم الطائرة.
في منطقتنا، كثير من الهجمات تتم تحت غطاء “حادث”. وكثير من “الحوادث” ليست حوادث، بل تُسجّل كذلك وتُحفظ في الأرشيف. شخصيًا أتابع سياقات هذه “الحوادث” بدقة. فكثير منها يرتبط بجهات معينة. إنها جزء من الصراعات الخفية بين الدول والقوى.
لدولة تمارس “التدخل العادل”… كل الشبهات مهمّة.
انفجار في خط أنابيب نفط، عطل في أنبوب غاز في بحر الشمال، قطع في خطوط الألياف، صاروخ يذهب إلى هدف خاطئ، اصطدام سفينتين في عرض البحر… حتى بعض حوادث المرور وبعض الأزمات القلبية قد تكون اغتيالًا!
وتركيا اليوم تمارس “التدخل العادل” من قره باغ إلى كشمير، ومن ليبيا إلى السودان، ومن سوريا إلى غزة، وفي شرق المتوسط صراع رهيب، وعناصرنا العسكرية تصل إلى عمق أفريقيا… في مثل هذا المناخ، كل “حادث” هو موضع شبهة.
فإذا كان الحادث يخص طائرة عسكرية… وإذا كان 20 من جنودنا قد استشهدوا… تصبح جميع الشبهات منطقية، وجميع الأسئلة مشروعة. فهيا ننظر إلى الشبهات:
هل يمكن أن تكون الصواريخ الهندية وراء ما حدث؟
حرب قره باغ كانت نصرًا ثلاثيًا لتركيا وأذربيجان وباكستان. وهذه الدول الثلاث كانت على الموقف نفسه خلال التوتر الأخير بين باكستان والهند. والهند تعرّضت لهزيمة مُذلّة. وبعدها مباشرة بدأت بإرسال صواريخ بعيدة المدى إلى اليونان.
كان ذلك رسالة إلى تركيا. والأخطر: بدأت بتسليح أرمينيا وإرسال أنظمة صاروخية إليها. للهند حساب مفتوح مع تركيا وكانت تعبّر عنه علنًا.
فهل يمكن أن تكون الصواريخ الهندية الموجودة في أرمينيا متورطة؟ هل تملك الهند القدرة؟ وهل يمكن لقوى أخرى استخدامها لهذا الغرض؟ المؤكد أن للهند رغبة في الانتقام من تركيا.
منظومات الدفاع الروسية، والطائرات المسيّرة الأوكرانية…
الحرب الروسية–الأوكرانية خلقت حالة خطيرة في القوقاز والبحر الأسود. في السابق، أُسقطت طائرة أذربيجانية بصاروخ دفاع جوي، وكادت الأزمة أن تنفجر بين باكو وموسكو.
ومن المعروف أن الصواريخ الأوكرانية باتت تصل إلى القوقاز، وأن مسيّراتها تكاد تصل إلى سيبيريا. ومنظومات الدفاع الروسية تتحرك تلقائيًا أحيانًا مسبّبة تهديدات.
الاستخبارات الإسرائيلية بارعة في هذه الأمور…
وهي تحارب تركيا في كل مكان…
هذا هو الشبه الأعمق.
إسرائيل تواجه تركيا في كل الجغرافيا: من ليبيا إلى السودان، ومن غزة إلى سوريا، ومن القوقاز إلى الخليج. وفي كل الجبهات خسرت أمام تركيا.
لكنها دائمًا تعتمد أساليب الاغتيالات، إسقاط الطائرات، “الحوادث” الصاروخية، الحرب الإلكترونية، واستخدام التكنولوجيا المدنية كسلاح.
ونعرف أن الاستخبارات الإسرائيلية قوية في تلك المنطقة. وعندما سقطت مروحية الرئيس الإيراني، توجّهت الأنظار مباشرةً إلى إسرائيل. الهجمات التي نفذتها عبر خلايا نائمة داخل إيران، واستخدام الهواتف كسلاح… كلها من أساليب “الموساد”.
استخبارات مَن؟ لوجستيات مَن؟ وسلاح مَن؟
إسرائيل والهند يعملان كجبهة واحدة. والهند كانت شريكًا في المجازر بغزة. وفي تسليح اليونان يتحركان معًا. وفي الرغبة بالانتقام من تركيا يعملان معًا.
وعند البحث عمّن ضغط الزر، قد لا يكون الطرف دولة واحدة، بل تحالف استخباراتي. فهل يمكن أن تكون هذه حادثة انتقامية من إسرائيل التي خسرت أمام تركيا في كل الجبهات؟
تتعلم كل هذا حين تتابع يوميًا مشاهدات الإرهاب والأمن والعمليات السرية والحروب والصراعات والتنظيمات. تنظر إلى ما وراء المشهد.
قد يفعلون ذلك فقط لمنع دخول الجيش التركي إلى غزة…
تفهم أن الصراعات لا تجري فقط عبر القانون والدبلوماسية، بل عبر طرق غير مرئية. وتبدأ كل هذه “الغرائب” تبدو طبيعية.
صدّقوني، الاحتمالات التي نناقشها نحن، لا تساوي شيئًا أمام ما ارتكبته إسرائيل من شرور استثنائية.
سننتظر نتائج التحقيق. وإن كان هجومًا، وإن كانت هناك دولة أو دول مشبوهة، فربما لن يُعلَن شيء. وسنستند إلى البيانات الرسمية.
لكنني أتوقع هجومًا كبيرًا من إسرائيل ضد تركيا؛ فهذه الدولة تغذي التنظيمات الإرهابية ضدنا، تنفذ الاغتيالات، تقوّي “الإرهاب السياسي” داخل تركيا، تتحالف مع دول كثيرة لتهديدنا، وتسلّحها، وتنشر الصواريخ في جزر إيجه وحتى في قبرص اليونانية.
وستفعل أي شيء لمنع دخول الجيش التركي إلى غزة… وربما يكون ما نراه الآن جزءًا من ذلك.
حدث في اليوم نفسه… هذا التوقيت بحد ذاته لافت.
ملاحظة أخرى:
وقع هذا الحدث في اليوم نفسه الذي أعلن فيه النائب العام في إسطنبول، أكين غورلك، لائحة الاتهام بحق بلدية إسطنبول. حتى هذا يجعل الإنسان يفكر: هل هو “انتقام” محسوب التوقيت؟ انتقام من مَن؟ هذا أيضًا يمكن التفكير فيه.
لماذا نربط كل شيء ببعضه؟
لأن كل شيء متداخل. ولا يفهم هذا التشابك إلا الاستخبارات. والدول التي لا تفهمه… دول ميتة.
أينما كان المكان على وجه الأرض… يجب أن يُدفَع الثمن!
لا توجد لدينا بيانات بعد، لكن حين نفكر في حدسنا، وفي الحسابات الجارية في ميزان القوة، وفي انتشار أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وخلاياها في القوقاز… يصبح من المستحيل اعتبار الأمر مجرد صدفة.
هناك آلاف الأسئلة في أذهاننا… وكلها منطقية. وكلما طرحنا سؤالًا… انفجرت غضبًا داخلنا.
وإذا تأكدت فرضية “إسقاط الطائرة”، فإن العثور على الجهة المسؤولة والرد عليها — أينما كانت على وجه الأرض — يجب أن يكون واجبًا مفروضًا على أعناقنا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!











