
ترك برس
تناول مقال للكاتب والمحلل التركي إسماعيل ياشا، بصحيفة "عربي21"، الأزمة الديمغرافية المتفاقمة في تركيا مع التراجع الحاد في معدل المواليد وازدياد نسبة كبار السن، وما يرافق ذلك من تحذيرات رسمية اعتبرت الوضع تهديدًا مباشراً لمستقبل البلاد.
ويعرض الكاتب أسباب هذا التراجع، وفي مقدمتها التحولات الاجتماعية والثقافية، وتأثير حملات “تحديد النسل” والدعاية الإعلامية التي غيّرت نظرة الأتراك إلى الزواج والإنجاب، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة وتأخر سن الزواج وانتشار عمل المرأة.
كما يستعرض جهود الحكومة، وعلى رأسها “عقد الأسرة والسكان”، ومحاولات تشجيع الإنجاب عبر الدعم المالي والسياسات الاجتماعية، مع التأكيد على أن المشكلة أعمق من الحلول الاقتصادية وتتطلب تغييرًا في العقلية وإعادة بناء الوعي الأسري.
وفيما يلي نص المقال:
أعلنت مؤسسة الإحصاء التركية، الاثنين، أن عدد سكان تركيا زاد 315 ألفا و710 أشخاص خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام، ليبلغ في الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي 85 مليونا و980 ألفا و654 نسمة. وجاء هذا الإعلان وسط تحذيرات القيادة التركية من تراجع معدل المواليد وازدياد نسبة كبار السن وتأثيراتهما السلبية على التوازن الديمغرافي في البلاد، وبدأت وسائل الإعلام المقربة من الحكومة تصف الوضع بـ"الكارثي" لما يحمله من مخاطر على مستقبل تركيا.
رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، قال في أيار/ مايو الماضي إنهم أعلنوا ما بين 2026 و2035 "عقد الأسرة والسكان"، مشيرا إلى انخفاض معدل الإنجاب في تركيا إلى 1.48 لأول مرة في تاريخ الجمهورية. ويؤكد تخصيص عشر سنوات لدعم الأسرة وحمايتها، بدلا من سنة أو سنتين، أن معالجة المشكلة ليست سهلة، بل تحتاج إلى وقت طويل وبرامج مختلفة وجهود حثيثة تشارك فيها كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني. وفي كلمته التي ألقاها قبل أسبوع في أنقرة خلال ندوة الأسرة والثقافة والفنون، لفت أردوغان مجددا إلى ملف النمو السكاني، قائلا إن القضية السكانية أصبحت أحد أهم التحديات التي ترتبط مباشرة بمستقبل البلاد.
تراجع نسبة الإنجاب في تركيا هو نتيجة تعرض البلاد لحملات ما يسمى "تحديد النسل". واستهدفت تلك الحملات المدعومة من الحكومات المتتالية والمنظمات الأجنبية، عقول المواطنين ونظرتهم إلى الزواج والأسرة والإنجاب عبر دعايات مباشرة وغير مباشرة تولت ترويجها وسائل الإعلام وشركات إنتاج الأفلام والمسلسلات، في إطار عملية كبيرة لغسل الأدمغة استمرّت لمدة سنوات وتأثر من آثارها السلبية حتى أبناء الأسر المحافظة والمتدينة. وتشير الإحصائيات إلى أن معدل الإنجاب يتراجع في معظم دول العالم، على رأسها الدول الأوروبية، إلا أن ذاك التراجع كان حادا، وفي وقت قصير، في الدول التي تعرضت لحملات دعائية مكثفة، مثل تركيا وكوريا الجنوبية.
تلك الحملات المغرضة جعلت الأسرة المثالية لدى كثير من المواطنين الأتراك هي التي تتألف من أب وأم وابن وبنت فقط. كما يرى هؤلاء أن زيادة عدد الأطفال تثقل كاهل الأسرة في ظل غلاء المعيشة وارتفاع تكاليف التعليم، وأن إنفاق دخل الأسرة في تربية وتعليم طفل أو طفلين أفضل من توزيعه على أربعة أو خمسة أطفال. كما تأثر هؤلاء من الدعاية السوداء التي شوهت كثرة الإنجاب، وادَّعت بأنها تؤدي إلى ترك الأطفال لتربية الشوارع وشبكات الإجرام والتنظيمات الإرهابية لعدم قدرة الأسرة على تربيتهم والاعتناء بهم.
الهجوم على الأسرة لا يقتصر على استهداف الشباب المتزوجين والمقبلين على الزواج فحسب، بل يستهدف أيضا عقول الأطفال من خلال ترويج الشذوذ عبر الأفلام والمسلسلات الكرتونية. ويمكن القول بأن استهداف الأطفال من قبل دعاة الانحراف لا يقل خطرا من الدعوة إلى "تحديد النسل"، وأن مكافحة تلك الأفكار الهدامة التي يتم ترويجها في الأفلام والمسلسلات ومواقع التواصل الاجتماعي تحتاج إلى أساليب مبتكرة في عصر العولمة وسهولة انتشار المقاطع عبر وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية الكثيرة.
الحكومة التركية تعلن تدابير وقرارات لدعم الأسرة وتسهيل الزواج وتشجيع الإنجاب، كما يحث أردوغان الأسر التركية على إنجاب ثلاثة أطفال على الأقل. إلا أن الدعم المالي ومنح إجازة للأمهات العاملات بعد الولادة وغيرهما من التدابير لا تكفي وحدها لحل المشكلة التي تحتاج إلى تغيير العقلية وإزالة آثار الحملات التي ما زالت تستهدف الأسرة؛ لأن سبب تجنب الإنجاب لا يقتصر على الخوف من الفقر، كما أن المرأة العاملة تفضل عدم الإكثار في الإنجاب، لأنها تضطر لترك الطفل في الحضانة أثناء الدوام، كما تحتاج إلى الراحة في البيت بعد رجوعها من العمل، ولا وقت لديها للاعتناء بالطفل، وبالتالي ترى أن كثرة الإنجاب تقيد حريتها في الخروج من البيت وتشكل عائقا أمام استمرارها في العمل. ومن المؤكد أن أن سياسة التشجيع على الزواج والإنجاب لن تؤتي أُكلها ما لم تتغير تلك العقلية.
قديما، لم يكن التعليم الإجباري لمدة 12 سنة، كما هو الآن، بل كان لمدة 5 سنوات، وكان كثير من الأولاد يذهبون للعمل ليتعلموا المهن المختلفة بعد التخرج من الابتدائية، كما أن البنات لم يكنّ يتأخرن في الزواج، ولم يكن عمل المرأة منتشرا لهذا الحد. وأما اليوم، فيدرس الطلاب والطالبات حتى نهاية الثانوية، ثم يلتحق كثير منهم بالجامعات، وبعد التخرج من الجامعات يبحثون عن عمل، وقد لا يجدون مباشرة، ويتأخرون في الزواج. وتشير الإحصائيات إلى وجود حوالي 19,5 مليون نسمة في تركيا لم يتزوجوا رغم بلوغهم سن الزواج.
الحكومة التركية تشجع عمل المرأة وتمكينها في كافة المجالات، وهناك من يرى ذلك متناقضا مع الدعوة إلى الزواج والإنجاب، كما يقول هؤلاء إن الأفضل أن تدعم الحكومة المرأة الجالسة في بيتها المتفرغة لتربية أولادها، بدلا من دعم المرأة العاملة. ويعبرون عن انزعاجهم من سياسة التمييز الإيجابي لصالح المرأة، ويرون أنها تسهم في تفكك الأسر وتؤدي إلى عدم رغبة النساء في الزواج والإنجاب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!










