د. مثنى العبيدي - خاص ترك برس
تضمنت السياسة التركية في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية التي تولت الحكم في أنقرة عام 2002 مبادئ جديدة لبناء علاقاتها الإقليمية والدولية في مرحلة جديدة أرادت بها أن تنطلق من كون تركيا عمقًا استراتيجيًا على المستوى العالمي. ومن هذه المبادئ التوازن بين الحرية والأمن، وتصفير المشكلات مع دول الجوار، والتأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، والسياسة الخارجية "متعددة الأبعاد"، والدبلوماسية المتناغمة.
وبالنسبة لمبدأ السياسة الخارجية "متعددة الأبعاد"، فيذهب إلى أن تركيا تنتمي إلى عوالم متعددة في محيطها الإقليمي، فهي بلد أوروبي ومتوسطي، تقع عند حوض البحر الأسود الأرثوذكسي السلافي، وتنتمي في الوقت نفسه إلى البيئة القوقازية، ولها امتداد ثقافي واسع في آسيا الوسطى، وهي جزء من الشرق الأوسط والعالم الإسلامي معًا، كما إنها نقطة التقاء الغرب مع الشرق، وأوروبا مع آسيا، فضلًا عن كونها خط تماس المسيحية مع الإسلام.
وتتضمن هذه المقاربة أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وعضو مرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولها علاقة قديمة بالولايات المتحدة الأمريكية وأخرى تحالفية على مدار سنوات طويلة مع إسرائيل.
وارتكز هذا المبدأ على أساس أن العلاقات مع الفاعلين الدوليين ليست في حالة تنافس، أو بمعنى آخر إن إقامة علاقة مع دولة ما لا يعني أن تكون بديلة عن العلاقة مع دول أخرى، واعتماد هذا المبدأ في السياسة التركية يهدف إلى إبراز علاقات تركيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية في إطار ارتباطها بحلف "الناتو"، وتحت مفهوم العلاقات الثنائية ، فضلًا عن طرح جهود تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك سياسة جوارها مع روسيا وأوراسيا تسير هي الأخرى على الوتيرة ذاتها من التزامن باعتبارها علاقات تجري كلها في إطار التكامل، وليست علاقات متضادة أو بديلة إحداها عن الأخرى.
وبالرغم من أن أوغلو يرى بأن هذهِ السياسة لم تتضارب أو تتناقض مع بعضها البعض، إلا أن بوادر بعض المشكلات الخطيرة قد ظهرت في أفق العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب التطورات المتعلقة بالقرار الأرمني والوضع العراقي، بيد أن العلاقات التركية-الأمريكية سرعان ما تحسنت بعد أن أبدى الطرفان قدرًا كبيرًا من التفاهم تجاه بعضهما البعض ، وبقيت قنوات التواصل مفتوحة.
وبالنسبة لمسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من تباطؤ عملية التكامل فإنه لم تتوقف تركيا في السعي إلى استكمال شروط الانضمام إليه، ولم يتم تعليق العملية، بالرغم مما أصاب العلاقات مع فرنسا من المشكلات، التي تمت مراجعتها بطريقة براغماتية. واستمرت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي رغم تباطؤ مسيرة الاندماج التركي فيه، ويضاف إلى كل ذلك ظهور نمط مؤسسي للعلاقات التركية مع روسيا.
ومبدأ السياسة الخارجية متعددة الأبعاد ، الذي طالما أعلنه الأتراك في مختلف المناسبات كأهم مبادئ سياستهم الخارجية لم يستطيع الصمود في وجه موجة التحولات التي عمت منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وتطورات الأزمة السورية بشكل خاص، ولا سيما بعد أن حسمت تركيا موقفها إلى جانب قوى المعارضة السورية التي أعلنت شعار المواجهة لإسقاط نظام الأسد الحاكم، وتجلى الموقف التركي بالرغبة بانتهاء الإزمة السورية، والمطالبة برحيل الأسد لوقف العنف ونزف الدم، ومحاولة إقناع إيران بالطرق الدبلوماسية لتغير موقفها السلبي من الشعب السوري، والمساهمة في مساعدة اللاجئين وإيوائهم واستضافة المعارضين ودعمهم بطريقة لم تقدمها حتى الدول العربية للشعب السوري.
وتشكلت في ظل تطورات الأزمة السورية عدة محاور على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية، كانت تركيا أبرز أعمدتها:
1- تشكل محور دولي ثنائي طرفه الأول الغرب وتركيا ومعظم الدول العربية وذهب إلى الوقوف بجانب الشعب السوري المطالب بتغيير نظام الأسد، والطرف الثاني روسيا والصين وإيران وهؤلاء كان موقفهم بجانب نظام الأسد الذي حظي بدعمهم سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
2- أنتجت الثورة السورية استقطابًا إقليميًا تركيًا - إيرانيًا، ذات طابع طائفي على هذه الاستقطاب، إذ ضم تحالفات إيران والنظام السوري والحكومة العراقية، وحزب الله في لبنان، وبدعم روسي، في حين ضمت تحالفات أخرى دول الخليج العربي وتركيا وقوى المعارضة السورية من أجل تعزيز الضغوط على النظام السوري بهدف إنتاج نظام سياسي جديد يتقاطع مع المحور الإيراني - السوري، وبدعم عربي – غربي.
3- أدت الأزمة السورية بشكلٍ خاص إلى تلاق خليجي - تركي يقوم على أساس معالجة النفوذ الإيراني في المنطقة، والحد من التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وكان في دخول السعودية - التي عارضت الثورات العربية - إلى هذا التوجه تأكيد على طابع الانقسام المحوري في منطقة الشرق الأوسط.
4- لم يقتصر تشكل المحاور في المنطقة على الدول فحسب، وإنما دخل إليها الفاعلون من غير الدول، ليساهموا في الاصطفافات الناشئة بسبب تغير شكل الأنظمة الذي نتجت عنه إعادة النظر في التحالفات التقليدية، إذ نجد أن حزب العمال الكردستاني وحزب الله اللبناني وفصائل مسلحة من العراق انضموا إلى التحالف الإيراني - السوري، بينما انضم الأكراد السوريون والأكراد العراقيون وقوى سياسية في العراق إلى التحالف التركي – العربي. والعديد من الحركات والأحزاب في عموم المنطقة انقسمت في تأييدها لهذا التحالف أو ذاك، الأمر الذي يزيد من تفاقم الأوضاع أكثر مما يساهم في حلها.
ونتيجة لهذه الاستقطابات خضعت سياسة تركيا "متعددة الأبعاد" لاختبار قاسٍ في ظل تطورات الأزمة السورية المعقدة التي طال أمدها وتعددت أطرافها، انساقت بسببها تركيا إلى أحد المحاور دون الآخر، وهو أمر تنفيه أنقرة بحجة أنها تضحي بنظام الأسد لتكسب ود الشعب والنظام الجديد الذي يمكن أن يتشكل بعد التغيير، فضلًا عن تحركها صوب العراق وإيران لمعالجة التباينات الناشئة بسبب اصطفافات الأزمة السورية بيد أنها لم تكن بمستوى ما تبتغيه أنقرة من طهران وبغداد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس