د.أحمد البرعي - عربي 21
"نحن لم نأت كسادة للحكم بل جئنا كخدم للشعب"، مقولة طالما رددها رائد النهضة التركية، رئيس الجمهورية التركية 12، رجب طيب أردوغان.
لقد قام حزب العدالة والتنمية بثورة اقتصادية يشهد لها الجميع وخاصة من عرف تركيا قبل ثلاثة عشر عاما يعلم جيدا المجهود الخرافي الذي بذله الحزب وعلى رأسه الطيب أردوغان في نقل تركيا نقلة نوعية بين صفوف الدول الصاعدة نحو النمو والتقدم، فلك أن تتحدث عن شق الطرق، وإنشاء الجسور، وبناء المطارات، والمدن السكنية، والبنية التحتية، والكثير الكثير من الخدمات التي عمت كل أنحاء البلاد دون تمميز بين مدينة وأخرى رغم أن إسطنبول قد حازت على نصيب الأسد من اهتمام الطيب أردوغان لاعتبارات كثيرة منها البعد التاريخي للمدينة وهواها الذي يسكن فؤاد الرجل وموقعها الجغرافي وثقلها الديمغرافي.
عمد الطيب أردوغان ومنذ أن أصبح عمدة لبلدية إسطنبول بعد فوز حزب الرفاه بانتخابات 1994، عمد إلى إتباع منهج القيادة بالخدمة وهو منهج فلسفي عملي ينبع من فلسفة أن "كبير القوم خادمهم"، وهو منهج قدم له "روبرت جرين ليف" في مقاله "الخادم القائد" (1970) بأنه منهج فلسفي يعتمد في جوهره على رغبة الشخص في خدمة مجتمعه والمساعدة في النهوض به وهو ما يؤدي إلى التطلع لقيادته لتحقيق هذه الفكرة النبيلة، ولكن هذا المنهج في أسلوب القيادة يتسم بأنه فلسفة تحويلية طويلة الأجل لا يمكن حصد ثمارها سريعاً ولا تحدث التغيير المرغوب به بسرعة.
بعد ما يقرب من 13 عاما من العطاء وتقديم الخدمات والمشاريع النهضوية التي رفعت قدر تركيا وعقب إمعان النظر في نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، هل كان الشعب التركي ناكراً للجميل؟ هل عاقب العدالة والتنمية على الخدمات التي قدمها له؟ لماذا لم يفز من حزب العدالة والتنمية أي عضو برلمان في خمس ولايات تركية هي (أغري وإغدر وشرناك وتونجالي وهكاري) والغريب أنه في الأخيرة "هكاري" كان كل من رئيس الجمهورية الطيب أردوغان ورئيس الوزراء داوود أغلو قد شاركا في مراسم افتتاح مطار “صلاح الدين الأيوبي” قبل الانتخابات بأيام قليلة.
لم يكن أحد من أهل هذه الولاية يحلم يوما أن يكون لها مطار ومع ذلك لم يفز أي من مرشحي حزب العدالة والتنمية عن هذه الولاية وفاز المرشحون الثلاثة عن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
والمفارقة الأغرب أن تعرف بعد انتهاء الانتخابات والنظر إلى إحصائيات توزيع الناخبين على المناطق أن حزب الشعوب الديمقراطي قد حقق فوزاً ساحقاً في بعض المناطق التي يقطنها ضباط الشرطة والجيش ففي مدينة ماردين، منطقة أرتوكلو، والتي يقطنها غالبية ضباط الشرطة والجيش فقد فاز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بأصوات 1099 ناخب وهو ما يعادل 95.4 في المائة من إجمالي أصوات المنطقة بينما حصل العدالة والتنمية على 29 صوتا وهو ما يعادل فقط 2.5 في المائة من الأصوات.
مع الأخذ في الاعتبار أن حزب العدالة والتنمية هو من أنشأ هذه المجمعات السكنية لضباط وأسر الجيش والشرطة ومع العلم أيضا أنه في انتخابات عام 2011 والتي فاز فيها حزب العدالة والتنمية بما يقارب 49 في المائة من الأصوات لم يفز في ثلاث من هذه الولايات (هكاري، وإغدر، وتونجالي) أي من مرشحيه، أما في انتخابات عام 2002 فكانت فقط "تونجالي" هي التي لم يفز مرشح حزب العدالة والتنمية فيها.
إذا ما الذي حدث؟ هل غير الناخب التركي أولوياته؟ هل أصبحت الخدمات والمشاريع ثانوية إذا ما استدعيت النعرات الطائفية والعرقية؟ هل تهزم الإيديولوجيات الفكرية والمذهبية الرؤية الإصلاحية التقدمية التي تبناها العدالة والتنمية؟ هل أضحى العدالة والتنمية مطالب بمراجعة منطلقاته وتقييم سياساته واستراتيجياته؟ هل يجب عليه أن يعيد حساباته وأولوياته؟ أم هل للقضية أبعاد أخرى؟
تركيا كباقي دول الشرق الأوسط تتميز ب"موزاييك" عرقي وثقافي، وتنوع مذهبي وحضاري متميز، وإذا ما دخلت في صراع الأيديولوجيات والعرقيات ونعرات الطائفية فلن يكون ذلك في مصلحة أحد وهذا ما يميز برجماتية العدالة والتنمية الواعية لطبيعة المنطقة ووعورة الجغرافيا السياسية فيها.
تبنى الطيب أردوغان منذ بداية عمله السياسي مفهوم الآية الكريمة [فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض] {الرعد: 17}، وهو منهج وإن كان يقتضي النفس الطويل والصبر الجميل على تناقضات المجتمع وتباينات المرجعيات فإنه المنهج الأسلم والأنفع للبلد وأهله وخاصة أن هناك من يتربص ويكيد ويدبر ليل نهار إلى زرع بذور الفرقة والشقاق بين مكونات البلد الواحد ومحاولة إشغال تركيا بقضاياها الداخلية وتحجيم دورها ونشاطها الإقليمي والدولي.
ولكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال إغفال مجابهة الأيديولوجية العفنة بأيدلوجية صحيحة نقية ومقابلة الاصطفاف باصطفاف على أسس صحيحة وهو ما يعمد إليه منهج التغيير المتدرج "بسرعة" تواكب سرعة الفريق الآخر وإلا فات القطار.
وليس فتح مدارس الأئمة والخطباء، وطرح مقررات دراسية في علوم القرآن الكريم والسنة واللغة العثمانية إلا بابا من أبواب تغيير الوعي الجمعي في المجتمع باستهداف الفئات الشابة الناشئة وتربية جيل جديد على القيم والمبادئ التي ينتمي لها الشعب التركي وأنا على يقين أن الناخب التركي كغيره من الناخبين يراجع حساباته ويقيم نتائج خياراته ولن يختار بدافع من أيديولوجيته أو مرجعيته حالة التيه والغموض السياسي وسيعود إلى حضن التقدم والنمو والعدالة والتنمية قريبا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس