د.أحمد البرعي - خاص ترك برس
انتهى أسبوعنا الدراسي وكان الجميع يستعد للعودة إلى منزله بعد أسبوع زاخر بالنقاشات والمناظرات والصراعات الكلامية عن الانتخابات التركية، ومن سيحظى بالأغلبية، وهل سيفوز العدالة والتنمية يوم الأحد القادم الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني في الانتخابات البرلمانية الثانية؟ أم هل ستدخل تركيا مرحلة أخرى من الفراغ السياسي ما قد يهدد استقرار البلد السياسي والاقتصادي؟
وعند خروجنا من الغرفة وإذ بأحد الأصدقاء يدعونا لتناول فنجان قهوة قبل المغادرة لمناقشة قضية خاصة كانت تشغله، وعند خروجنا من باب الجامعة وإذ بطفل صغير نائماً بين يدي والده الذي ترتسم علامات الحزن والشقاء على تجاعيد وجهه ورقع ثيابه، يحمل ذاك الطفل بين يديه ورقة كتب عليها "نحن جائعون"، فَهَمَ صديقنا بسؤاله، هل أنت سوري؟ فأجابه بالتركية قائلاً "نعم، نحن من تركمان سوريا، ونحتاج إلى المساعدة، فنحن لا نجد مكانا مناسباً نسكن فيه، وعندي من الأطفال ستة، وأنا وأمهم، وكما تعلمون فالإيجارات ومتطلبات الحياة غالية جداً، وأنا لا أستطيع العمل فظروفي الصحية لا تسمح". امتدت الأيادي إلى الجيوب وصافحت يد الرجل تاركةً ما قسم الله له، ثم توجهنا إلى المقهى.
"ألا يوجد في تركيا رجال أعمال فاحشي الثراء؟ ألا تستطيع الحكومة أن "ترغمهم" على إيواء هذه العائلات، وتقتطع ذلك من ضرائب شركاتهم؟ هل ذهب الخير من هذا البلد؟ أين الأخوة والنصرة التي يتحدثون عنها؟ لماذا تُترك هذه العائلة للجوع والبرد يقتلها قتلاً بطيئاً، بينما نعيش نحن وعائلاتنا نأكل ما طاب ولذ من الأطعمة؟ هل هذه نصرة الضعيف؟!!"
كانت هذه الأسئلة التي طرحها صديقنا صاحب المشكلة، الذي دعانا لتناول فنجان القهوة ومناقشة مشكلته، أضاف قائلاً "أليس هذا كافياً لكي لا أنتخب العدالة والتنمية؟"
يتهم البعض ومنهم صديقنا ذو التوجه الإسلامي العدالة والتنمية باستغلال قضية اللاجئين السوريين لأغراض سياسية بحتة ولتسويق نفسه على أنه نصير المظلومين ومأوى المطرودين في حين أنه لا يقوم، على حد زعمهم، بالحد الأدنى المتوقع منه، ومن تركيا الدولة الإقليمية المحورية القوية ذات النفوذ والتأثير في الإقليم والمنطقة.
يدندن أصحاب هذه النظرة دائماً بأن الطيب أردوغان كان باستطاعته تجنيب سوريا ما حدث فيها من مجازر ومذابح وقتل وتهجير وذلك بعلاقته وقربه الشديد من بشار الأسد، إذ كان يكثر الطيب أردوغان في سنوات خلت قبل الثورة السورية بالقول بأن بشار الأسد هو أخوه الذي لم تلده أمه، فكيف تغيرت الأحوال حتى صار بشار قاتلاً وسفاحاً ولا يمكن أن يحكم سورية؟!
يجادلك أصحاب هذا المذهب بالقول، أين هم "الأنصار" الذين استقبلوا ورحبوا واستضافوا "المهاجرين". ألا يتشدق أردوغان في جميع خطاباته بأن تركيا هي الأنصار لاخوانهم اللاجئين من المهاجرين من سوريا والعراق وغيرها من دول الجوار؟ هل هذه أصول الضيافة والتضامن؟! هل هذا ما يليق بتركيا وشعبها، أن ترى أحد الأطفال يلجأ لعادم السيارات ليتدفأ من البرد في بلد كانت يوماً بلد الخلافة الإسلامية؟ هل كان يقبل السلطان العثماني أن يبني الطيب أردوغان قصراً بملايين الدولارات بينما جيرانه المهاجرين لا يجدون مأوى ولا ملجأ ولا نصير؟! ألا يؤنب الواحد فينا ضميره وهو يلاعب صغاره بينما يرى صور هذه الفتية الصغار ويلمح الحزن والبؤس في عيونهم؟! أين ذهبت إنسانيتنا وأين هي مروءتنا؟ وأين هي العدالة والتنمية التي نتحدث عنها؟!
لقد تركني هذا الصديق في حيرة من أمري ووقعت في "حيص بيص" فكيف لي أن أرد عليه؟!
هل أدافع عن تركيا بالقدح في العرب؟! ففي فمي ماء، فدول العرب أغنى دول العالم وتستثمر دولاراتها وثرواتها في بلاد الغرب، وتشكو الفقر والضنك إن كان الحديث عن سوريا والعراق وفلسطين، بينما تتدفق المليارات على الجنرالات وجيوش القهر وعروش الفساد. بل ونسمع مؤخراً عن صفقات سلاح مع دولة الكيان لشراء القبة الحديدية!!
هل أقول له مثلاً إن كنت تشعر بتقصير تركيا حكومة أو شعباً تجاه الإخوة اللاجئين فيجب عليك أن تقوم بزيارة مخيمات اللاجئين في دول الجوار العربي؟ ومن ثم تطلق أحكامك بتقصير تركيا من عدمه؟ هل أتحدث عن دول الخليج "العربية" وكيف أنها تخلو من أي لاجئ سوري بحسب تقارير منظمات الأمم المتحدة. هل أتحدث عن أن تركيا أنفقت أكثر من سبع مليارات ونصف من الدولارات التي لم تسهم فيهم الدول العربية سوى بقدر يسير جداً من دولة قطر؟ هل لك أن تنظر إلى المخيمات والخدمات التي تقدمها تركيا مؤسسات وحكومة وشعباً للاجئين في حين تقدم حكومات دول الجوار العربي رسائل الشكاوى والتأفف والتضجر من الوافدين عليها.
هل أدافع عن الحكومة التركية وما تقدمه من خدمات إنسانية وتعليمية وصحية وتسهيلات في مجال الإقامة والعمل للمواطنين السوريين؟ هل أدافع عن الطيب أردوغان الذي لم ينفك يوصي ويشدد في جميع لقاءاته مع مخاتير المحليات والأحياء التركية على تقديم حسن الضيافة ومعاملة السوريين معاملة حسنة وعدم الإساءة إليهم بأي شكل من الأشكال؟ هل أذكره بأن الطيب أردوغان قد طالب بإدراج قضية اللاجئين على أجندة قمة العشرين التي تنعقد في تركيا؟ بينما هي لا تذكر على أجندة ما يسمى بالجامعة العربية؟ هل أخبره بأن قضية اللاجئين كانت على قمة أولويات الطيب أردوغان مع مركل الأسبوع الماضي؟ هل أشرح له التسهيلات التي تحصل عليها المدارس السورية والطلبة السوريين من قبل مؤسسات الوقف التركية؟
لكني رأيت أن خير جواب على هذا الصديق أن ألتزم الصمت وأترك صديقي السوري يرد عني فأحسن الرد وأوجزه قائلاً: "يكفي أن يدلنا التركي على السوق كما فعل الأنصار الأوائل مع المهاجرين الأوائل، وأنا أزعم أن الطيب أردوغان بقوانينه وتسهيلاته قد دلنا على السوق وأوصى بنا خيراً"
تساءلت في نفسي، هل حقاً كان صديقنا ينطلق من هذه المبادئ والمنطلقات في حكمه على أداء حزب سياسي كالعدالة والتنمية؟ أم أنه يريد أن يظهر طوباوية إنسانيته وسمو أخلاقه؟ أم أنه يبحث عن عذر يدفعه لتبرير موقفه المعادي للطيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية فلا يجد سوى أن يقدح في جهد شهد له العالم أجمع بل ويشهد به "المهاجرون" أنفسهم من العراق والشام.
هنيئاً لذاك الصديق على رقي إنسانيته أياً كانت منطلقاته، وهنيئاً للعدالة والتنمية إن كان قد أغلق أبواب انتقاداته إلا من ثغرات وتقصير لا يخلو منه حزب سياسي في أرقى الديمقراطيات المعاصرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس