احسان الفقيه - خاص ترك برس
(وفتحناها بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول الله خاتم النبيين وما هي إلا فتح " القسطنطينية" العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام، روّح الله أرواحهم، وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم، في إظهار المحبة لسكان الأراضي المقدسة).
بهذه الكلمات، كان رد شريف مكة على رسالة السلطان محمد الفاتح، والتي بشره فيها بفتح القسطنطينية عام 1453م.
وفي القاهرة أقيمت الاحتفالات وعُلقت الزينة ابتهاجا بالنصر وتحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول المؤرخ المصري "ابن إياس": (فلما بلغ ذلك، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائربالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم أنالسلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولًا إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح).
لقد التفت قلوب أبناء الأمة من عرب وعجم، حول السلطان الذي خاض المعركة نيابة عنهم جميعا، فأظهر النصر قوة الشعور بأمة الجسد الواحد، وأبرز الراية الحقيقية التي يلتف حولها المسلمون بعيدا عن النعرات القومية والانتماءات الجزئية الضيقة.
بعد الفوز الساحق الذي منّ الله به على حزب العدالة والتنمية، تسلل إلى أنفي عبق ذكرى فتح القسطنطينية فيما يتعلق بالفرحة العامة التي انتابت جميع الشرفاء في الأمة الإسلامية في شتى البقاع، واعتباره يوما من أيام الإسلام التي أعز الله فيها الأمة.
جاءتني التهاني والتبريكات بالفوز من إخوتي من كل مكان مع علمهم بأنني أردنية فلست بالتالي عضوا في الحزب، لكنهم شاركوني ذات الشعور بأن هذا الحزب لا يمثل الأتراك وحده، إنما هو حزب جميع الشرفاء في أمتي، إنه إحدى النقاط القليلة المضيئة في صفحة واقعنا التي خيم عليها الظلام.
لهذا ابتهجت الأمة بالنصر:
لأنه يعني استئناف مسيرة النهضة التي ابتدأتها تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية، وهو ما يأمل فيه أبناء الأمة لما يمثله توجهات الحزب الحاكم من إقرار قيم العدل والدفاع عن المظلومين، إضافة إلى جذوره الإسلامية، وهويته التي يتمسك بها رغم وعورة هذا المسلك في بيئة كان العلمانيون قد هيمنوا عليها.
ولأنه طمْأنَ إخواننا اللاجئين السوريين، الذين فتح لهم الأتراك الأبواب على مصراعيها واقتسموا معهم رغيف الخبز، وعاشوا طوال الفترة السابقة قلوبهم تخفق، فرقا من تولي الأمور من يتوعد بطردهم من البلاد.
ولأن ذلك الفوز دعمٌ وتعزيزٌ للتحالف السعودي القطري التركي، والذي تعول عليه الأمة في حل قضاياها، فجاء الفوز في وقت ينحاز فيه العرب إلى أحد الفسطاطين: إما الحلف السعودي القطري التركي، أو الإيراني الروسي الأسدي، كما جاء في وقت تواجه فيه دول الشرف الثلاث تحديات ضخمة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ولأن ذلك الفوز سيعني استمرار الدور التركي الفاعل في سياسته الخارجية تجاه الملف السوري، والذي هددته الأعمال الإرهابية في الداخل، والتدخل الروسي السافر في سوريا.
ولأن ذلك الفوز سطع بريقه في غزة، وابتهج أهلها فرحا، لأن تركيا أردوغان كانت ولا زالت داعما للشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع، والذي لا ينسى للحكومة التركية ملحمة سفينة مرمرة.
ولأن تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية كانت أبرز من وقف بوجه الانقلاب في مصر، وأصرت على موقفها الرافض للتعامل مع قادته الانقلابيين، واستضافت الثوار المناهضين للانقلاب الملاحقين أمنيا، ففي ذلك تقوية للجبهة الثورية المصرية.
ولأن تركيا إحدى القوى التي تعرقل المشروع الإيراني في المنطقة، ولذا كان فوز العدالة والتنمية يوم مأتم في إيران، والتي لم تخف وسائل إعلامها الشعور بخيبة الأمل في تناول ذلك الحدث، فابتهج كل من يعارض التمدد الإيراني ويدرك خطر الصفويين على الأمة، ويوقن أن الجبهة العربية التي تواجه الطموحات الفارسية قد ازدادت قوة بفوز العدالة والتنمية.
الحصان الأسود في السباق:
حدِّثني عن عوامل فوز العدالة والتنمية من مراجعة للمسار واستفادة من الأخطاء السابقة كما تشاء، لكن لا يمكننا بأي حال تجاهل تلك الورقة الرابحة، وهي الشعب التركي.
لقد كان من أوجه سعادتي بهذا النصر التاريخي، أنه عكس قوة وعي الشعب التركي وتغليبه المصالح العليا لوطنه، والارتفاع بها فوق الخلافات والتحزبات.
أدرك الشعب التركي أن هذه المسيرة لن تُستأنف في غياب العدالة والتنمية، وأن أي خيار آخر يعني الجري في المحل، وأن البلاد سوف تدخل في نفق مظلم مجهول المعالم، ولذا انحاز فئام من القوميين والأكراد إلى حزب العدالة والتنمية رغم اختلاف التوجهات، وقال الشعب كلمته باختيار من يصلح لقيادة الأمة التركية.
البداية وليست النهاية:
هذا النصر الكبير سيضاعف حجم التحديات والمسؤوليات والمهام الواقعة على عاتق العدالة والتنمية، فهو مطالب خلال فترة وجيزة بتحقيق الوعود التي أطلقها قبيل الانتخابات.
سيأخذ الحزب الحاكم على عاتقه رفع المستوى المعيشي للأتراك وبث الطمأنينة في قلوبهم بعد هواجس التردي الاقتصادي التي أثارت المخاوف في الفترة السابقة.
سيعمل الحزب على السير المتوازن الدقيق في مواجهة إرهاب حزب العمال الكردستاني واستيعاب الأكراد واحتوائهم في الحضن التركي وإدخالهم في السياق الوطني العام، وهي مهمة تحتاج إلى دقة متناهية واهتمام بالغ بشئون الأكراد في شتى البقاع التركية يترجم إلى واقع عملي يتمثل في حل مشكلاتهم وأزماتهم.
ستواجه تركيا كذلك تحديات التمسك بإقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، ذلك المطلب الذي كاد أن يُطمر بعد التدخل الروسي الذي تزامن مع توقف الحياة السياسية في تركيا، سيتطلب ذلك مجهودا ضخما، إضافة إلى مواجهة احتمالات تقسيم سوريا وإقامة دولة كردية في الشمال تهدد الأمن القومي التركي.
فواهمٌ من يظن أن ذلك الفوز هو المنتهى، سيكون بداية العمل الحقيقي لهذا الحزب، ونحسبه أهلا لذاك.
كيف ننظر إلى النموذج التركي:
البعض قد يتوهم أن دفاعي عن تركيا أردوغان وتأييدي لحزب العدالة والتنمية، يعني أنني أنطلق من حلم قيادة تركيا لمشروع قومي في المنطقة على غرار الدولة العثمانية السابقة، وهذا قطعا جهل كبير بطبيعة العصر الذي نعيشه بكل تعقيداته السياسية والجيوسياسية.
قلتها سابقا وأكررها: تركيا ليس لها مشروع في بلاد الحرمين ولا غيرها، ومن يعتقد ذلك فهو واهم، تركيا قامت سياستها الخارجية على تحقيق الاستقرار وتصفير النزاعات، وهو ما أبرزه أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي"، فمن ثَمّ ليس لها أطماع توسعية، وإنما تدعم القضايا العادلة، وترفض الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، وتسعى لخدمة القضايا العامة للأمة امتدادا لدورها التاريخي السابق، الذي كان أبرز أسباب قوتها وبقائها إلى عهد قريب.
فحزب العدالة والتنمية نموذج مُشرّف لمن وعدوا فصدقوا وأخلصوا وعملوا واجتهدوا وحققوا أحلام شعوبهم..
وحُقّ لنا أن نفرح بفوزه في زمن عزّت فيه الأفراح.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس