احسان الفقيه - خاص ترك برس
إسطنبول عام 2025م:
استيقظ المواطن "تركي" على صوت جرس الهاتف، ففرك عينيه وهو يتناول هاتفه الجوال، وما إن شرع في استقبال المكالمة من صديقه المقرب، حتى اتسعت حدقتاه بعد أن صدرت منه شهقة عظيمة أفزعت زوجته بجواره.
أنهى المكالمة دون تعليق، وظل فاغرا فاه، إلى أن سألته زوجته في وَجَل: من الذي اتصل بك في هذا الوقت المتأخر؟ وما بال الفزع قد ارتسم على وجهك؟!
أجابها في خفوت: الجيش قد انقلب على الحزب الحاكم واعتقل قياداته.
الزوجة في فزع: رباه، هل عدنا إلى تلك الحقبة السوداء مرة أخرى؟
أجابها في فزع مماثل: هذا ما توقعته بعد أن صعدت هذه الشرذمة من الجنرالات إلى الصدارة في المؤسسة العسكرية، لقد غاب من حولوهم يوما من طغاة وقتلة للديمقراطية إلى حُماة لها.
تناول الإفطار مع زوجته وابنيه الذيْن تجاوزا العشرين وهو ينظر إلى فنجان الشاي الذي يقلبه في وجوم وشرود، ما لبث بعدها أن خرج متوجها إلى شركة الصرافة التي يعمل بها.
وكعادته كل صباح مر "تركي" على صديق سوري حصل على الجنسية التركية منذ 12 عاما، فمنحه ابتسامة متكلفة بعد أن تعكرت دماؤه بخبر الانقلاب العسكري، وقال له: وجهك يذكرني بسنوات كنا نتقاسم فيها الخبز مع إخواننا السوريين، قبل أن...
لم يكمل عبارته بعد أن شعر بغصة في حلقه، فابتسم صديقه العربي قائلا: قبل أن تقوم الحكومة الجديدة بطرد كل السوريين منذ عشر سنوات أليس هذا ما تعنيه؟
أومأ المواطن التركي برأسه في حرج، ثم ودع صديقه، واستكمل رحلته إلى محل عمله، وهو يُحدِّث نفسه في الطريق: وا أسفي على زمان كنا لإخواننا العرب وكانوا لنا ظهرا، أما اليوم فعدنا إلى الارتماء في أحضان الغرب وتم اقتطاعنا من جسد الأمة الواحدة.
وهنالك في شركة الصرافة التي يعمل بها، يدخل عليه أحد العملاء لشراء دولارات، ويسأله عن سعر اليوم، فيجيبه: سعر الدولار اليوم خمسة ليرات وربع.
استبدل الرجل عملاته وانصرف، تاركا المواطن "تركي" ينظر إلى الليرة في حسرة، ويقول لها: إلى متى سيظل هبوطك وتدنيك أمام الأخضر؟ لا عجب أن صرتِ إلى هذه الحال وقد تسلم زمام الأمور حزب لا يمتلك رؤية اقتصادية، ها نحن ذا نحصد ما زرعنا بعد أن خَذَلْنا الثقات وأصحاب التجارب الناجحة.
في نهاية الدوام الرسمي، عاد إلى بيته، ثم تناول الغداء، وخرج في المساء إلى مقهى يلتقي فيه أصدقاؤه، وبعد أن تناول فنجان قهوة تركية معهم، قال أحدهم: هل هناك قتلى اليوم على الحدود؟
تهكم آخر قائلا: من المؤكد يا صديقي، هذا أمر قد اعتدنا عليه.
تدخل ثالث وهو يقول في جديّة: خمس وستون جنديا اليوم قتلوا على الحدود.
قال المواطن تركي: منذ قيام دولتهم في الشمال السوري وصار تشييع الجنازات العسكرية أمرا معتادا، تبا لسياسات عقيمة سمحت لهؤلاء بإقامة دولة تهدد أراضينا.
تدخل أحد الأصدقاء قائلا في حماس: هذه الدولة لم تكن لتقام في وجود حزب الـ...
صرخ صديق له في فزع: اصمت، لا تتحدث هكذا مرة أخرى.
قال المواطن التركي متهكما: حتى حرية الحديث افتقدناها، رحم الله أياما كنا نهاجم الحزب الحاكم على صفحات الجرائد والفضائيات وننتقدهم دون خوف.
قالها وهو ينهض ملقيا عليهم تحية المساء متوجها إلى بيته، فما إن فتحت زوجته الباب حتى استلقى على الأريكة ودخل في صمت طويل، احترمته الزوجة التي آثرت أن تتركه قبل أن يطلب منها - كالعادة في مثل هذه المواقف - أن تدعه بمفرده.
جعل "تركي" يقلب بصره في الأوضاع التي تمر بها بلاده، ثم يتخطى بخياله حواجز الزمن إلى الماضي القريب، ويقابل الصورتين المتضادتين في أسى، فضغط على أسنانه في حنق، بعد أن نهض على قدميه ووقف أمام المرأة ينظر إلى نفسه، وهو يوبخها قائلا: أنت السبب، أنت السبب، منحت صوتك في الصناديق من لا يستحق، فصعد إليها المريب، بعد أن فارقها الأمين، فليت الزمان يعود، ليت الزمان يعود، ليت الزمان يعود.
رددها وهو يصرخ ثم تعالت صرخاته واختتمها بتوجيه قبضته في قلب المرآة التي تعكس وجهه في عنف، لتتفجر الدماء من شرايين يده.
إسطنبول عام 2015م:
قام "تركي" من نومه بأنفاس متلاحقة، وهو يلتفت يمينا وشمالا وينظر إلى يده، وسرعان ما أدرك أن ما رآه لم يكن سوى كابوسا، فقام من فراشه وتجهز لصلاة فجر ذلك اليوم الذي وافق غرة تشرين الثاني/ نوفمبر، موعد الانتخابات البرلمانية في تركيا.
وبعد أن أدى الصلاة، جلس إلى الحاسوب، ثم دخل إلى صفحته على فيسبوك، وظل يكتب في حماس:
لهذا سأمنح صوتي حزب العدالة والتنمية:
لأنه الحزب الذي يملك رصيدا عظيما من التجارب الناجحة، يستحق لأجلها أن نودع فيه ثقتنا..
هو الحزب الذي يمتلك رؤية اقتصادية واضحة قطع على طريق تنفيذها خطوات كبيرة نقلت الاقتصاد التركي إلى مراكز متقدمة لم نكن لنحلم بها قبل 2002...
هو الحزب الذي أعاد إلينا تراثنا العثماني المغيب، أعاد إلينا هويتنا ونسائم تاريخنا المجيد...
هو الحزب الذي يتوجه إلى المواطن البسيط، لا ينعزل عنه، هو حزب مجالسة الفقراء والمعدومين، حزب العدالة الاجتماعية بمفهومها الأصيل...
هو الحزب الذي يقدم النموذج العملي أولا، لا الوعود الفارغة التي تنطلق من الأبراج العاجية...
هو الحزب الذي جعل لتركيا مكانتها في المنطقة، بل في العالم بأسره، هو حزب نصرة الضعفاء والمظلومين...
هو حزب المبادئ وتقديم المصالح العليا للوطن، هو حزب احترام الديموقراطية مهما كانت نتائج ممارستها...
هو حزب السمت الإسلامي الذي يتناغم مع هوية الشعب التركي المسلم...
هو الحزب الذي صمد أمام المؤامرات الدولية والداخلية، بسياساته الواعية التي تعتمد على اللين في غير ضعف، وعلى القوة في غير بطش...
هو الحزب الذي نأتمنه على حدودنا وأمننا القومي، هو الحزب الذي يرفع رأس المواطن التركي في جميع المحافل الدولية...
هو الحزب الذي استطاع ترويض الجنرالات وتحييدهم بعد فترات عصيبة عانت فيها تركيا من الانقلاب على الديموقراطية من قبل الجيش، وحولهم حزب العدالة والتنمية إلى حماة للديموقراطية....
سأنتخب حزب العدالة والتنمية، لأنني أحب تركيا، والمجد للشرفاء...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس