زيرفان البرواري - الحوار المتمدن
إن المعطيات السياسية والتطورات الأمنية في الشرق الأوسط قد أعادت إلى المنطقة ممارسة سياسة القوة (Power Politics) وحماية التوازن في القوة بين الأطراف المتابينة والمتنافسة على النفوذ في المنطقة، إن مبدأ الأمن (Securitisation) في السياسة الخارجية للدول في فترة الحرب الباردة كانت الصفة الغالبة، والوسيلة الأساسية للمراقبين والأكاديميين في تحليل السياسية الخارجية، إلا أن هذا المفهوم تراجع بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وظهر مبدأ القوة المرنة وتقليل الاعتماد على مبدأ الأمن (Desecuritisation) باعتبار هذا المبدأ يوفر الأرضية الملائمة لتحقيق الأمن والسلام الدوليين، إلا أن الأجندة الدولية والتصادم بين المصالح الدولية في الشرق الأوسط أفرزت سيناريوهات خطيرة تهدد الأمن والسلام في تلك البقعة الجغرافية، وذلك من خلال تصدير الأزمات ورسم سياسات التأثير وإعادة توازنات القوى على حساب الشعوب والدول الضعيفة في المنطقة، وهو ما أعاد شبح الأمن من جديد، وهو ما سوف يبرز تحديات وحروب جديدة في المتأزمة دوما.
إن الربيع العربي؛ وبالأخص الثورة السورية قد شكل تهديدًا مباشرًا للهيكل التقليدي للأمن والمصالح الدولية في الشرق الأوسط، وهو ما أظهرته الكثير من الأنظمة والدول على حقيقتها، فالشعارات الديمقراطية والقوة المرنة، وتصدير الديمقراطية الأمريكية كلها بضاعة كانت تتسوق بها الغرب للضغط على الحكام المستبدين لدفعهم نحو مزيد من العبودية والخضوع المجاني، إذ أن المسألة الشائكة في المنطقة تعلق بسياسة القوة واحتلال المراكز في المعادلة الجديدة. وهو ما يفرز حالة القلق لدى كثير الأطراف من مركز تركيا، أو بالأحرى الخوف والقلق من استمرار أنقره في ممارسة السياسة الخارجية بصورة مستقلة عن تلك التي يتبناها الدول الكبرى؛ وهو ما يشكل عائق للمشاريع والأجندة الخفية لتلك الدول في الشرق الأوسط.
إن حالة التدهور العلني في العلاقات التركية والروسية؛ كانت نتيجة طبيعية لحالة التباين بين الدولتين على الكثير من الملفات سواء في البلقان والقوقاز، وكذلك الشرق الأوسط، فالعزلة التي فرضتها الغرب وخاصة الاتحاد الأوروبي على موسكو قد أرهقتها، وباتت تبحث عن نوافذ للخروج من تلك العزلة التي كلفتها الكثير من الناحية الاقتصادية؛ ونظرًا لكون العقلية العسكرية هي الحاكمة في روسيا، فالعمل على صناعة الأزمات من قبل موسكو تعد ورقة باتجاه ضرب مصالح الاتحاد الاوربي والأطراف القريبة منها؛ سواء في أوروبا الشرقية، أو في الشرق الأوسط من أجل المساومة على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي مع روسيا.
إن فلاديمير بوتين يحاول جاهدًا فرض سياسة الأمر الواقع على المجتمع الدولي، وهذا يظهر من خلال الغطرسة الروسية في أوروبا الشرقية حديثًا جنون الدب الروسي المتهالك في الشرق الأوسط، إلا أن الحرب السورية باتت أقرب إلى نموذج أفغانستان وساحة ردود الفعل على الانتهاكات الايرانية والروسية بحق المدنيين السوريين، حيث أن روسيا تتدخل في ملفات وفق سياسات مرحلية غير مدروسة وعلى درجة عالية من الانفعال التي قد تكرر عليها سيناريو السوفيت في المستنقع الأفغاني.
والسؤال الذي يطرح نفسه؛ أين موقع تركيا من التطورات الراهنة؟ إن التفاعل الذي شهدته السياسة الخارجية التركية في المناطق المجاورة لها في كل من البلقان القوقاز والشرق الأوسط؛ غيَّر من مركز تركيا كونها دولة تعاني من الأزمات الداخلية ومن الانقياد إلى السياسات الدولية، وعدم امتلاكها لسياسة خارجية مستقلة إلى دولة محورية في المنطقة، وذلك لتغيير موقعها من دولة عادية تحاول أن تحافظ على وجودها إلى دولة إقليمية تساهم في خلق الأحداث في الأجواء القريبة منها، فلم يعد الأتراك ينتظرون المشاريع والاستراتيجيات الجاهزة المستوردة من الولايات المتحدة، بل على العكس فقد تحولت دولة تركيا إلى دولة إقليمية وقوة مؤثرة على المعادلات الإقليمية والدولية، وهناك الكثير من الأمثلة على هذا الدور؛ منها المساهمة في حل النزاعات الدولية، وكذلك المساهمة في حفظ الأمن والاستقرار في مناطق النزاع، وكذلك تبنى سياسات قائمة على الدبلوماسية العامة؛ كل هذه الأمور حققت لأنقرة موقعا جديدًا لم تكن تحلم به في الفترة التي سبقت وصول العدالة والتنيمة إلى الحكم.
إذن تركيا لم تعد الدولة التي كانت تسمى في اروقة الدبلوماسية الدولية "دولة الجناح" أو الجسر الذي يربط الشرق بالغرب، بل وكما قال أوغلو إن تركيا لها أكثر من صفة وهي دولة أوربية، بلقانية، قوقازية، شرق أوسطية بالإضافة إلى تاثيرها المباشر على البحر الأبيض المتوسط، وأن القرن الحالي حسب القادة الجدد هي قرن تركي، وأن تركيا تحاول جاهدة أن تحل الموقع التي تتناسب مع ثقلها التي تتجلى من تاريخها، نظامها الديمقراطي، وقوتها العسكري، وكثافة سكانها. فكل تلك العوامل تبعث الأمل لأنقره لتكون قوة إقليمية عظمى تساهم في رسم الخريطة السياسية للمنطقة في المستقبل، وأن تجاهل الدور التركي في الوقت الراهن تعبر قراءة خاظئة للمشهد السياسي والتطورات الأمنية في المنطقة.
إن التسابق على القوة والنفوذ في الشرق الأوسط بين الدول العظمى والإقليمية بات المشهد الذي لا يحتاج إلى المختصين لتحليلها أو معرفتها، وتركيا تدري تلك التطورات، وأنها في صدد تشكيل تحالف إقليمي مع دول الخليج في الشرق الأوسط من خلال التنسيق مع الناتو، وكذلك صناعة الضغط في البلقان وأوربا الشرقية على المشاريع والطموحات الروسية، إن التصعيد الروسي لم تصل إلى المستوى الذي يعتبر الخطا الأحمر بالنسبة للمصالح التركية، وأن الاصطدام المباشر بين الدولتين حالة غير متوقعة؛ وذلك لعدة أسباب تتعلق بعضها بالخصائص الذاتية للدولتين وأخرى تتعلق بالعوامل الموضوعية في البيئة الإقليمية والدولية.
والحرب الباردة بين تركيا وروسيا بدأت منذ وقت لا تقل عن نصف عقد من الزمن، وأن حادثة اسقاط الطيارة الروسية حولت هذا الحرب إلى العلن، إلا أن الحرب الباردة قد اتسعت لتشمل روسيا وأكثر من طرف ضمن الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة، وأن الجنون الروسي في سوريا والجرائم ضد المدنيين السوريين سوف تدفع الأطراف المعادية لروسيا إلى دعم مباشر لاي جهد تركي غير مباشر ضد روسيا، والأيام القادمة تحمل للقادة الروس مفاجئات ووقائع قد تزيد من حالة الانهيار الاقتصادي لموسكو وتقلل من هيبتها في المحيط الدولي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس