د. أحمد البرعي - خاص ترك برس
أرسل الرئيس المصري "محمد مرسي" يومًا رسالة بروتوكولية عند تعيين السيد "عاطف سالم" سفيراً لمصر في دولة الكيان. هاجت وماجت الدنيا وأخذ الاعلام المصري بقبحه وفظاظة أسلوبه يشهّر ويطعن في الرئيس الإخواني المسلم الذي ارتمى في أحضان إسرائيل، وباع مصر وسيناء، واتخذ من الإسلام مطيّة للوصول لسدة الحكم، فما إن وصل حتى سارع للتماهي مع النظام العالمي الفاسد، وخطب ود دولة الاحتلال ارضاءً لأمريكا وللغرب!!!
ما إن سعى "مرسي" للحصول على قرض صندوق النقد الدولي حتى انبرت ألسنة حزب النور السلفي ومتحدثيها تجلد في الإخوان الذين ميّعوا الدين، واستغاثوا بالغرب، ليبدأوا مسيرة تمكينهم بالربا ومحاربة الله سبحانه وتعالى. وكذا كان موقفهم من تسريبات أُشيعت عن تعاون مصري إيراني، وتبادل للبعثات العلمية والخبرات في مجالات مختلفة، فتصدر المشهد فوراً عمائم وشيوخ تمعرت وجوههم وصدحت حناجرهم تؤكد أن مصر إسلامية الهوية سنية المذهب عربية المذاق ولا يجوز لمرسي وجماعته فتح أي علاقات سياسية أو ثقافية أو اقتصادية مع دولة شيعية تعمل على تشييع أهل مصر السنية.
كان هذا في الوقت الذي كانت تمتد أيادي الخليج السني سراً وعلانية تدعم وتمول العسر والثورات المضادة في مصر وغيرها من دول الربيع العربي للانقلاب على النموذج السني الوسطي الذي شكل للخليج رعباً، ولكراسي ملكهم تهديداً دون أي داع أو مبرر، فما فتئ الإخوان يؤكدون على أن ثورتهم محلية، وأنهم لا يسعون بشكل من الأشكال إلى نقل ثوراتهم لأي من شعوب المنطقة فلكل بلد خصوصيته ولكل شعب الحق في اختيار آلية وأسلوب حياته التي يرتضيها، كان ملكيا أو جمهورياً أو مدنياً أو أي كان، مادام من اختيار الشعب ولم يفرض عليه.
كانت الأيام كفيلة بفضح تآمرهم ومشاركتهم في الانقلاب على الرئيس المنتخب فقد تجاوز النظام الحالي مرحلة برتوكولية الرئيس "مرسي" إلى التماهي الكامل مع المشروع الصهيوني حتى أصبح عسكر مصر ملكياً أكثر من الملك، واستمرأ الخوض في "كل اللي ما يرضيش ربنا" كما قال عراب الإنقلاب.
مؤخراً خرج للإعلام تسريبات ثبت بعد ذلك صحتها مفادها أن اتفاقاً وشيكاً تم التوقيع عليه في سويسرا بين تركيا وإسرائيل لتسوية ملف أسطول الحرية وعودة العلاقات البينية سياسياً ودبلوماسياً - إذ إن العلاقات لم تتأثر كثيراً اقتصادياً.
تباينت الأراء واختلفت ردود الأفعال عقب أنباء التقارب التركي الإسرائيلي. فذا يشمت فيمن وثقوا بالأتراك الذي يرونهم انتهازيون لا يعرفون سوى مصلحتهم ولا يؤمنون بسياسة المبادئ والأخلاق، فقد تطبّعوا بطباع الغرب وشربوا من قدح ديمقراطيته الميكافيلية واستهوتهم براجماتية المصالح.
نسي هؤلاء أن تركيا كانت ولا تزال الدولة الوحيدة التي وقفت في كل المحافل الدولية والعالمية تنكر انقلاب العسكر المصري على إرادة الشعب في انتخاب رئيسه. نسي هؤلاء أن تركيا هي الدولة الأعظم دوراً في الوقوف قلباً وقالباً مع الشعب السوري وثورته واستقبال المهجرين من أبنائه.
سقطت تركيا في نظر هؤلاء وباعت غزة وباعت فلسطين من أجل أن تستورد الغاز الإسرائيلي ليكون بديلاً عن الغاز الروسي الذي يمثل 60% من الاحتياج التركي والذي هددت روسيا بإيقاف إمداده عقب رفض تركيا تقديم اعتذار عن اسقاط الطائرة الروسية سوخوي 24 في الرابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني.
رأى فريق آخر أن تركيا إنما انتهجت نهجاً عملياً مباحاً في ميدان السياسة وإدارة الدول وخاصة عند الأخذ بعين الاعتبار التحديات المتلاحقة والأمواج المتلاطمة في المنطقة والإقليم. يرى هذا الفريق أن التردد الخليجي والارتباك الواضح في الموقف السعودي خاصة، بالإضافة إلى تراجع مؤشرات صعود ثورة مصرية قادمة تعيد مصر إلى العمق الإستراتيجي التركي، قد دفع بتركيا لتطرق الأبواب المغلقة، إن صح أنها من بدأت المفاوضات، وأن ترسل رسائل اضطرارية للحليف في واشنطن والناتو لترميم العلاقات مرة أخرى مع إسرائيل.
يأتي هذا في الوقت الذي استخدمت روسيا كل أوراق الضغط لإحراج أنقرة وإجبارها على تقديم اعتذار يحفظ ماء وجه الغطسرسة البوتينية المراهقة. إذ استدعت روسيا حلفاءها من العرب والأكراد والفرس للضغط على تركيا، فتلك إيران تهدد من جهة وتلك العراق، وذاك ممثل الإمارات العربية المتحدة يظهر فجأة في الكرملن، ناهيك عن صلاح الدين ديمرطاش "رئيس حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي الذي سيذهب لزيارة روسيا ليفتتح ممثلية لحزبه في موسكو!!!
كانت البراجماتية التركية الرشيدة قد بدأت بزيارات مكوكية للعديد من الدول لتوفير مصادر للغاز من كل من تركمنستان وكازخستان وقطر، كما عملت الحكومة التركية على إيجاد بدائل وأسواق للبضائع التركية في الأسواق الأوكرانية والأوربية والشرق أوسطية، كما أخذ العمل الدبلوماسي والسياسي دينامكيات تنم عن بعد نظر وندية واعية إذ ظهر جلياً بجلسات تركية أوكرانية وتصريحات تركية بدعم أوكرانيا واستعداد الأخيرة للتعاون في شتى المجالات.
أما الفريق الآخر فهو الفريق الذي يقدم حسن الظن والثقة والتفهم للأداء السياسي ولرجال الدولة التركية، ويؤمن بأن تحركاتهم إنما هي لمصلحة البلاد والعباد، وهو ذلك الفريق الذي عملت السياسة التركية على تقويته وتعزيز ثقته بها ببرامجها ومنطلقاتها ونجاحها في العديد من قراراتها، وإثباتها أنها ليست حديثة عهد بسياسة أو إدارة دول، لقد وصل هذا الفريق إلى الوعي الكافي بأن آليات المبادرة السياسية لا يمكن فهمها دون فهم كامل لأدوات ومقومات اتخاذ القرار السياسي، والإلمام بكافة العناصر والمؤثرات، ودراسة البيئة الداخلية والإقليمية، وعناصر القوة والضعب، بالإضافة إلى الاحاطة الممكنة بالتهديدات والفرص، هذا فضلاً عن طرح سينارويهات اتخاذ القرار والعواقب والنتائج والمصالح والمفاسد التي قد تنبني على هذا القرار وهو ما قد لا يتسنى لأولئك المرفّهين الذين ينظّرون ويتفلسفون ويطرحون الأراء كأوصياء على الاجتهاد ويكأنهم ألموا بناصية الحكمة وعرفوا كل ضالات المؤمن.
نعم لم تُقطع العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل عقب استشهاد النشطاء الأتراك الذين قضوا على سفينة مرمرة في بحر غزة بل ازداد حجم التبادل، بينما قُطعت العلاقات الدبلوماسية وأضحت إسرائيل عدواً بعد أن كانت من أقرب الحلفاء الاستراتيجيين.
استطاعت تركيا خلال الفترة السابقة أن تلعب دوراً إغاثياً عمل على تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة واستطاعت الهيئات الإغاثية التركية أن تقدم ما لا يمكن تقديمه لولا الحفاظ على تلك الشعرة من العلاقات. قدمت أنقرة كل الدعم السياسي للضفة قبل غزة وكانت أول من دعم الخطوة الفلسطينية في التصويت على دولة غير عضو في الأمم المتحدة.
وكذا هو الحال مع روسيا فكما أن روسيا عدو عسكري في سوريا تحاربه مجموعات وأفراد يأتمرون بأوامر تركية ويتلقون الدعم التركي إلا أن العلاقات الاقتصادية كانت مستمرة ولا تزال وما أن ابتدأ الطرف الروسي بالتلويح بعقوبات اقتصادية على تركيا، بادرته تركيا بعقوبات مماثلة وانطلقت تبحث عن البدائل والفرص.
يأتي الحديث عن التقارب التركي الإسرائيلي في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة مرحلة من أقسى مراحل الصراع مع العدو الصهيوني، خاصة عندما ينمو إلى علمك أنه في الوقت الذي تضع فيه تركيا قضية رفع الحصار عن القطاع كأحد أهم شروطها لتطبيع العلاقات مع الكيان وإعادة السفراء، يعمل عسكر مصر وسيسيها على إقناع الكيان بعدم الرضوخ للضغوط التركية وعدم تخفيف شروط الحصار على غزة!!!!
أكاد أجزم أن التقارب التركي الإسرائيلي سيكون في مصلحة حماس أكثر من تركيا نفسها.
فمن جهة، شكّل ولا يزال الضغط الاقتصادي الذي خلفه الحصار المصري والإسرائيلي كابوساً يؤرق القائمين على إدارة غزة في ظل تعامٍ دولي وأممي غير مسبوق.
ضياع الحليف العسكري والمالي المتمثل بإيران وحزب الله اللذان أصابتهما لوثة الطائفية القميئة فأظهرت حقيقة ما يمكرون وما كانوا يرمون إليه.
صد كل محاولات فتح قنوات اتصال مع العالم السني المتمثل بالسعودية ودول الخليج لتكون ظهيراً للمقاومة وسنداً وداعماً لها. إلا أن كل تلك المحاولات فشلت تماماً على ما يبدو من قراءة المشهد. كما أن قطر لم ولن تستطيع أن تكون بديلاً عن الدور الإيراني في الدعم العسكري واللوجستي والتكنولوجي للمقاومة وإن قدمت دعماً إنسانيا في إعادة الأعمار وترميم البنية التحتية.
حماس نفسها عرضت ولا تزال هدنة طويلة الأمد لعشر سنوات أو أكثر مع الكيان برعاية دولية أو أممية تكون فرصة لالتقاط الأنفاس وترتيب الملفات وتقييم الموقف في بيئة مستقرة نوعاً ما.
هذا بالإضافة إلى ملف الأسرى الذي لعبت فيه مصر دوراً في السابق، وإن لم يكن محايداً، إلا أنه كانت هناك بعض من قنوات التواصل والمفاوضات، بينما الآن أُغلقت كل الأبواب، فلعل دخول تركيا على الملف يحرك المياه الراكدة وتكون الوسيط القادم في صفقة تبادل أسرى أضحت ملحةً على دولة الكيان وخاصة بعد تنامي الضغط الشعبي والمؤسساتي وارتفاع أصوات عائلات الجنود المخطوفين الذين يربوا عددهم حسب المحللين الإسرائيليين عن خمسة قد يكون بينهم جثث.
في ظل هذه المعطيات، يلوم البعض على حماس نعيها غير المقبول لسمير القنطار الذي قضى على أرض سوريا بغارة إسرائيلية رفض نتنياهو تبنيها!!! بينما تبنتها مجموعات من الجيش السوري الحر.
لن تستطيع أم مكلومة أو أب فقد عائلته وأبناءه أو طفل سوري يتمه حزب القنطار، لا يمكن لهؤلاء أن يتفهموا منطلقات حماس في نعيها للقنطار الذي قُتل على أرض سوريا محارباً بين صفوف حزب الله، ولكن هؤلاء المكلومين أيضاً لم يسمعوا بما سُرّب عن جنرال المقاومة الشهيد "محمد الجعبري" الذي قال يوماً أتمنى لو نستطيع نقل تجربة كتائب القسام في معارك الأنفاق إلى إخوتنا في سوريا، لن يضمد جراح أولئك المعذّبين، ولن يشف صدر تلك الزوجة الشامية المكلومة كلمات "إسماعيل هنية" الذي كان وقتها رئيساً للوزراء، التي هزت أركان المسجد الأزهر بمصر نصرة للشام وأهله.
لمّا وجدت المقاومة بديلاً شعبياً حقيقياً تركن إليه اصطفت وأعلنت موقفها، وأعلت صوتها، وانحازت لخيارات الشعب المظلوم والمضطهد، ولكن عندما أُوصدت أمامها أبواب القريب والغريب، وخسرت رهانها بانقلاب الخائنين وخنق أهل غزة ومقاومتها، أضحت مكشوفة الظهر لن ينفعها عند اشتداد وطيس المعركة سياسة "الدروشة الإخوانية" التي ستُتهم بها المقاومة إن انكسرت شوكتها كما اتّهم منتقدوها آنفاً قادة المقاومة السلمية في مصر.
أنا لا أقول أن تلك الرسالة ستُرضي إيران وحزب الله وستنهال الأموال والدعم العسكري واللوجستي على المقاومة ولكني أقول إن حماس كحركة مقاومة مارست السياسة والحكم تغيرت ولابد من أن تتغير منتطلقاتها في مخاطبة العالم الإسلامي شعباً قبل الحكومات، ويكأن كتائب القسام التي تغنى بمقاومتها العالم ورفعت رأس الأمة بالأمس القريب قد قبلت برسالتها تلك وارتضت قتل وذبح الأطفال السوريين وأعطت صك الغفران لحزب الله والقنطار. أحياناً.... لابد من بعض إنصاف يرحمكم الله.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس