الجزء الثالث من دراسة "العلاقات المغاربية التركية بين تحديات الراهن وآفاق المستقبل"
د. زبير خلف الله - خاص ترك برس
مثلت الثورة التونسية في يناير سنة 2011 منعطفا جديدا في المسار السياسي للمنطقة المغاربية والعالم العربي بشكل عام، وباتت تتكشف ملامح تغيير جديدة في طبيعة التوازنات الاقليمية والدولية . وكانت تركيا أولى الدول التي ساندت الثورة التونسية واعتبرتها مرحلة مهمة جدا في رسم مشهد سياسي جديد في تونس التي عانت من ويلات الاستبداد السياسي والهيمنة الاستعمارية غير المباشرة.
لم تبد تركيا موقفا واضحا في بداية الثورة الليبية، وظلت تتعامل مع نظام القذافي بشكل طبيعي لعدة اعتبارات أهمها أن العلاقات التجارية وحجم المبادلات التجارية بين ليبيا وتركيا فاق 10 مليار دولار ، ووجود مايقارب عن 25 ألف عامل تركي على الأراضي الليبية يعملون في شركات تركية عديدة ، وكانت مستفيدة جدا من الناحية الإقتصادية ومن السوق الليبية. رغم حجم هذه المصالح لتركيا في ليبية الا أنها في النهاية وقفت إلى جانب الثورة وساندتها وفتحت مستشفياتها للجرحى الليبيين. وربما يكون هذا التغيير في الموقف التركي المساند للثورة الليبية يعود إلى إدراك تركيا أن نظام القذافي لم يعد له مستقبل في المنطقة، وأن المراهنة عليه ربما مجازفة بوجود تركيا ضمن مستقبل المعادلات السياسية والتوزانات الجديدة التي ستظهر في المنطقة المغاربية1.
لونظرنا بلغة الأرقام الإقتصادية لقلنا إن تركيا تعاملت حتى مع هذه الثورات في المنطقة المغاربية من منطلق براغماتي مصلحي ولكن الحقيقة ليست كذلك . فقد كانت أكثر الدول التي وقفت كل مكوناتها الرسمية وغير الرسمية مع هذه الثورات، ودافعت عن حق الشعب التونسي والليبي والمصري في التحرر من الاستبداد . وظلت وسائل الإعلام التركية المحسوبة على حزب العدالة والتنمية وبقية القوى السياسية بما فيهم اليساريين يدافعون عن حق الشعوب في اختيار من يحكمها وحقها في تأسيس أنظمة ديمقراطية تكفل الحرية للجميع وتحقق العيش الكريم لشعوبها.
ويتضح الموقف الإيجابي التركي تجاه الثورة التونسية والليبية بماقامت به تركيا من تقديم مساعدات مادية ولوجستية لتونس، وحاولت ان تنقل خبراتها إلى النظام الجديد في تونس، وسعت جاهدة للوقوف معها حتى تستطيع أن تتجاوز كل التحديات التي تمر بها. لقد رأت تركيا ومن ورائها حزب العدالة والتنمية في حركة النهضة التونسية التي انتخبها الشعب للحكم سنة 2011 حليفا استراتيجيا يمكن التعامل معه وبناء مقاربات جديدة تمكن تركيا أيضا من ترسيخ وجودها في تونس وفي المنطقة المغاربية بشكل عام. وفي ظل هذه الظروف تطورت العلاقات التونسية التركية، وبدأت السياسة الخارجية التونسية تتجه نحو إحداث انفتاح كبير على تركيا والاستفادة من تجربتها وفتح أبوابها الى المستثمرين الأتراك الذين باتوا ينظرون الى تونس على أنها منطقة مهمة للاستثمار وللاستفادة منها كبوابة لقارة إفريقيا2.
هذا الانفتاح الكبير بين تونس وتركيا وكذلك نية تركيا الواضحة لترسيخ أقدامها في المنطقة المغاربية شكل إزعاجا كبيرا لفرنسا و للولايات المتحدة الأمريكية المتنافسين الكبيرين على منطقة شمال افريقيا. وقد عملت الديبلوماسية التركية على الاتصال بباقي الدول المغاربية فكانت زيارة اردوغان الى الجزائر وفتح جملة من المشاريع التركية هناك ، وكذلك زيارته إلى المملكة المغربية والاتفاق على جملة من الاتفاقيات الاقتصادية والتعاون العسكري، كما كان نصيب تونس أكبر من الاهتمام التركي خلال فترة حكم الترويكا وخصوصا حركة النهضة التي يعتبرها البعض أنها الحليف الاستراتيجي لتركيا في منطقة المغرب العربي3.
لقد نظرت تركيا الى التغييرات التي وقعت في تونس وليبيا ومصر على أنها فرصة كبيرة جديدة للتوغل في هذه المنطقة والاستفادة منها ليس فقط من الناحية الاقتصادية وإنما أيضا من الناحية الاستراتيجية خصوصا إذا اعتبرنا أن تركيا الجديدة في عهد حزب العدالة والتنمية لم تعد تركيا الممر الذي يعبر عليه الغزاة بل صارت تركيا الدولة الأقوى في منطقة الشرق الأوسط، وباتت ترغب في التمدد في الشرق والغرب الأمر الذي أزعج عدة دول أوروبية أهمها فرنسا المانيا وروسيا وانجلترا والولايات المتحدة الامريكية4.
العلاقات المغاربية التركية : الآفاق والمستقبل
يبدو مستقبل العلاقات المغاربية التركية سيكون بشكل أفضل خصوصا اذا استمرت إرادة التغيير السياسي في البلدان المغاربية وفي تركيا أيضا على اعتبار أن الهوة التاريخية بين الضفة التركية والضفة المغاربية لم تعد عميقة، وأن هناك توجها مغاربيا أيضا للاستفادة من التجربة التركية والتعاون مع تركيا في كافة المجالات . وقد بدأنا نلحظ بشكل جلي تدفقا كبيرا ورغبة لقدوم الطلاب المغاربة للدراسة في تركيا وهذا في حد ذاته يشكل رصيدا مهما يمكن أن يعزز طبيعة هذه العلاقات ويرسخها في المستقبل.
كذلك نرى أن تركيا باتت محتاجة جدا الى بناء شراكات اقتصادية وثقافية واستراتيجية وعسكرية مع بلدان المغرب العربي لا سيما أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منطقة ساخنة أثرت على الإقتصاد التركي وعلى مشروع تركيا الكبرى الذي يحتاج الى ان يتوسع في مناطق أقل توترا ولعل المنطقة المغاربية هي المنطقة الأكثر جذبا بالنسبة الى تركيا.
اذا أردنا للعلاقات المغاربية التركية أن تتدعم يجب على الطرفين أن ينفتحا على بعضهما البعض، وأن يؤسسا لمشروع تعاون اقتصادي واستراتيجي مستقبلي يدفع باتجاه تحويل منطقة المغرب العربي الى كيان سياسي موحد قادر على لعب دور ايجابي على الساحة الافريقية والعربية والدولية ويؤسس لنوات لقاء حضاري عربي واسلامي على الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط.
في المقابل على تركيا الجديدة أن تنظر إلى المنطقة المغاربية من زاوية الشراكة التاريخية والحضارية والثقافية لأن هذه العوامل هي التي تدفع فعلا لإيجاد ثقة بين الطرفين وتأسيس مشروع حضاري تحرري ينقل المنطقة المغاربية من حالة الهيمنة الغربية الى حالة الاستقلالية الذاتية. كذلك على تركيا أن تسعى للوساطة بين الفرقاء في ليبيا من أجل الوصول الى حل توافقي يحقق الأمن والاستقرار داخل هذا البلد الغني بثرواته وطاقاته، وأن تقدم لهم كل العون والخبرات من أجل مشروع الدولة الليبية الديمقراطية المستقرة.
كما أن على تركيا أن تسعى للإصلاح بين الشقيقتين الجزائر والمغرب الأقصى والبحث عن حل يرضي الأطراف لمسألة الصحراء الغربية التي مثلت عقبة كأداء في توتير العلاقة بين الجارتين الشقيقتين. لأن استقرار المنطقة المغاربية يخدم تركيا بالدرجة الأولى لا سيما وأن الشعوب المغاربية أصبحت تنظر إلى تركيا نظرة إيجابية ومعجبة بتجربتها النهضوية وتريد الاستفادة منها.
الخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاصة
خلاصة القول ستظل العلاقات المغاربية التركية علاقات عريقة متجذرة في الماضي والحاضر والمستقبل وذلك لأن جملة من المشتركات التي تجمع الضفتين كبيرة وكثيرة قادرة على أن تبني مستقبلا واعدا يخدم مشروع المنطقة المغاربية وتركيا في الان نفسه، ويقلل من حجم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. يبدو أن المنطقة المغاربية اذا استقرت فيها الأوضاع السياسية وزالت الخلافات بين دولها ستشكل في المستقبل المنظور كيانا موحدا قد يتحول الى لاعب رئيسي على ضفة البحر الأبيض المتوسط وفي القارة الإفريقية خصوصا إذا اعتبرنا أن عوامل النجاح في الاتحاد بين هذه الدول متوفرة جدا عكس منطقة الشرق الاوسط التي لا يوجد بين مكوناتها الاجتماعية تناغم يشجع على اللقاء. وهنا على تركيا أن تولي اهتماما لهذه المسألة وان تدفع في اتجاهه لأنها ستكون اكثر الدول المستفيدة من ذلك.
1 http://www.panapress.com/حجم-العقود-الموقعة-بين-وتركيا-تبلغ-10-مليارات-دولار--12-324469-53-lang1-index.html
2 http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=24042015&id=1d81d056-...
3 https://ar.qantara.de/content/lsys-lkhrjy-ltrky-trky-mn-wsyt-qlymy-l-lb-...
4 https://ar.qantara.de/content/lsys-lkhrjy-ltrky-trky-mn-wsyt-qlymy-l-lb-...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس