محمد زاهد جول - المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
ليس غريباً أن تتحسن العلاقات التركية الإماراتية، بل الغريب أن تبقى سيئة أو متوترة لمجرد وجود وجهات نظر مختلفة حول عدد من القضايا السياسية في المنطقة، في مقدمتها دعم الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية مطالب الشعوب العربية بالإصلاح والديمقراطية ومكافحة الفساد والاستبداد، بعد أن اختارت الشعوب العربية بنفسها هذا المسار الشرعي، فقد أيدت تركيا الاحتجاجات التي دعمتها معظم الدول العربية في مرحلتها الأولى، وهي مطالب شعبية وسلمية وديمقراطية، ولكن بعض الدول ومنها الامارات وقفت ضد وصول تيار معين إلى السلطة السياسية في عدد من الدول العربية، وهو التيار الذي يوصف بالإسلام السياسي، المتمثل بدرجة أكبر بحركة "الإخوان المسلمين" أكثر من غيرها من الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية، وفي جمهورية مصر أكثر من غيرها أيضاً.
ومن المؤكد أن تركيا تنظر إلى وصول "الإخوان المسلمين" أو غيرهم إلى السلطة االسياسية في مصر هو إجراء طبيعي وديمقراطي ما بقي في إطار السلوك الديمقراطي والسلمي، وما يحكم على هذا السلوك هو احترام الإرادة الشعبية في مصر او في غيرها، فالشعوب العربية لن تكتشف النهج الديمقراطي في انتقال السلطة السياسية سلمياً، وإنما ستطبقها كما تعارف عليها العالم الغربي والدول المتقدمة، بإجراء الانتخابات بحرية ونزاهة وتنافسة قانونية متساوية بين جميع فئات الشعب وأحزابه وتياراته الفكرية والسياسية، وصناديق الاقتراع هي التي تفرز القيادة السياسية الجديدة، وهذا ما جرى في الدول العربية التي تمكنت من تغيير نظامها السياسي بعد عام 2011، وبالأخص في تونس ومصر.
إن تبني الامارات وغيرها رفض نتائج الانتخابات المصرية الديمقراطية بانتخاب د. محمد مرسي كان موقفا مستغرباً، فهذه هي الديمقراطية الحديثة التي تنشدها كل الشعوب للوصول إليها، وكان الموقف التركي الشعبي والرسمي الحكومي مؤيدا للنهج الديمقراطي في الدول العربية، وليس مؤيدا لتيار معين فقط، ودون تدخل في شؤون الدول العربية إطلاقاً، فالقرار السياسي لأي شعب عربي أو غير عربي هو قرار صناديق الاقتراع، وبالتأكد فإن الانقلابات العسكرية هي اعتداء على الإرادة الشعبية مهما تم تزينها أو تزويرها أو تمويلها، لأن الانقلاب هو موقف أيديولوجي إقصائي وغير ديمقراطي، وليس سلوكاً سياساً حكيماً، وبالأخص إذا كان الانقلاب عسكريا، فلم ينجح انقلاب عسكري في تحقيق أماني الشعوب في العالم إطلاقاً، بل كان مآله الفشل في كل أنحاء العالم، قديما وحديثاً، وغالبا ما ينتهي الانقلاب العسكري بانقلاب عسكري آخر يحاول إنقاذه ولكن دون فائدة، حتى عودة الحرية إلى الشعب لتقرير مستقبله السياسية بالطرق الديمقراطية، وهذا ما حصل في التاريخ التركي الحديث.
لذلك كان طبيعيا أن تصل حكومة السيسي إلى طريق مسدود في الحكم باعتراف الشعب المصري نفسه، بعد ثلاث سنوات من تدخل العسكر، فالمال وحده لا يحل مشاكل الحكم العسكري، وبالأخص إذا كان العسكر هم من يطمعون بالحكم مباشرة وبأنفسهم، كما حصل مع الجنرال كنعان إفرين في تركيا، فقد قام بانقلاب عسكري عام 1980 ، ووضع دستور عام 1982 ، وفاز بنفسه كأول رئيس جمهورية انقلابي، ولكنه فشل في قيادة الحياة السياسية، بالرغم مما تحصل عليه من دعم أمريكي وأوروبي وإسرائيلي، ولكنه فشل لأنه لم يحظ بدعم الشعب التركي له، باستثناء المنتفعين الذين تقربوا منه لمصالحهم الخاصة، او خوفاً على مصالحهم الخاصة.
هذه الرؤية امتلكتها تركيا بالتجربة الأليمة والتاريخية والقريبة، فعاشت تركيا أربعة انقلابات عسكرية متوالية دون فائدة، والإمارات لم تخض هذه التجربة على أرضها أولاً، وقد دخلت تجربة دعم التدخل العسكري في مصر عام 2013 برؤية سياسية وأمل أن ينجح العسكر بتغيير الارادة الشعبية بالقوة العسكرية، وأن ينجح العسكر في كسب ود الشعب المصري، وأن ينجحوا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودولياً، ولكن ذلك لم يحصل، ووقع العسكر في مصر في فشل سياسي ذريع، وفشل اقتصادي أكبر منه، فكان لا بد من تصحيح المسار في مصر، ليس بتغليب الرؤية التركية ولا الإماراتية، وإنما بتغليب الإرادة الشعبية المصرية مرة أخرى، وإعادة الديمقراطية على الطريق الصحيح في مصر، لكل ابناء الشعب المصري وليس لتيار واحد فقط، والباقي في السجون.
لقد كان الاختلاف الإماراتي التركي كبيرا بسبب موقف خارج العلاقات البينية الثنائية بينهما، مثل الموقف من قرارات الشعب المصري وخياره السياسي، وكان أثر هذا الاختلاف كبيراً حتى اعتبرت بعض السلوكيات الثنائية عدائية دون وجود أسباب حقيقية، حتى استطاعت النتائج في مصر أن تُغير من حدة هذه الاختلافات، إضافة إلى نجاح السعودية بقيادة الملك سلمان في تحييد الاختلاف على تولي العسكر الحكم في مصر على العلاقات الثنائية بين تركيا والسعودية، فسياسة التحييد نجحت في إيجاد تقارب تركي سعودي حقيقي، تحتاجه كلا الدولتين السعودية والتركية في ظل تحديات إقليمية كبيرة، إضافة إلى أن الموقف التركي من الحدث المصري أصبح أكثر تفهماً، بأنه ليس دعماً لتيار سياسي بعينه، وإنما هو دعم للشرعية والديمقراطية ورفضا للانقلابات العسكرية التي عانت منها تركيا كثيراً، فالمخاوف الخليجية بخاصة والعربية بعامة من وجود أطماع تركية في البلاد العربية قد زالت وانتفت، وثبت ما هو عكسها، بتقديم تركيا الحق العربي ودعمه بكل جرأة وشجاعة، بغض النظر عن التيار الفكر والسياسي الذي يحمل هذا الحق، حتى لو كلف ذلك تركيا بعض الخسائر الاقتصادية والسياسية إقليميا ودولياً، فوقوف تركيا إلى جانب الحق العربي الفلسطيني قويا وواضحاً، حتى لو أدى إلى تضرر العلاقات التركية الإسرائيلية، كما أن وقوف تركيا إلى جانب الحق العربي في اليمن ضد السياسات الإيرانية كان نقطة أساسية في تغيير موقف السعودية من تركيا، بل أثبتت تركيا انها دولة صديقة للدول العربية في مواجهة التحديات التي تواجهها الدول العربية والخليجية في المنطقة، وفي المحافل الدولية، وموقفها في دعم الامارات في حقها بجزرها الثلاث في مياهها الإقليمية في الخليج العربي معروف أيضاً.
ولا شك أن توقيع تركيا لاتفاقيات تعاون استراتيجي مع الحكومة القطرية في أواخر عام 2015 اولاً، وتوقيع اتفاقية مجلس تعاون استراتيجي بين تركيا والسعودية في 2016 ثانياً، وتحسن العلاقات التركية الكويتية والبحرينية ثالثاً، من العوامل التي تدفع كلا الحكومتين الاماراتية والتركية إلى تجديد التواصل بينهما، ومحاولة نزع أسباب الاختلاف بينهما، وبناء علاقات سياسية واقتصادية متينة أيضا، بغض النظر عن نقاط الاختلاف الأخرى، أو بتحيدها.
لقد اوضحت تركيا مبادىء سياستها الخارجية التشاركية مع الدول العربية والإسلامية في مؤتمر القمة لمنظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في اسطبنول 14 و15 نيسان 2016، فالاتصال المباشر حصل باستقبال الوفد الإماراتي لمؤتمر القمة الإسلامية في اسطنبول، وشاركت دولة الإمارات في انجاح هذا المؤتمر، وسوف تواصل تركيا تعاونها مع الدول الخليجية والعربية والإسلامية في تحقيق أهداف هذا المؤتمر، حتى لا يكون مجرد مؤتمر، وإنما مقدمة لسياسات ومشاريع سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية من شأنها تحسين العلاقات بين الدول الإسلامية.
ولذلك ليس غريبا أن يتجدد التواصل الإماراتي والتركي بعد القمة الإسلامية وبين يدي الدولتين التركية والاماراتية الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية بينهما، فتركيا سبق وأن عملت على فكرة مبدأ تعاون تركي خليجي منذ سنوات، وتقويته مع بعض الدول الخليجية ليس بالضرورة أن يكون على حساب دول خليجية أخرى، بل أن يزيد من التعاون والتكامل بينهما، ولا شك أيضاً أن نجاح مؤتمر القمة الإسلامي في اسطنبول بالاتفاق على تشخيص المشاكل في العالم الإسلامي، بما فيها تحميل الحكومة الإيرانية الكثير من المسؤولية عن حالة عدم الاستقرار في المنطقة، والتنديد بالسياسة الإيرانية في المنطقة، سوف يدعم مزيدا من التواصل والتلاقي الإماراتي التركي في عدد كبير من المشاكل والأزمات التي تعصف بالمنطقة.
وفي الجانب الاقتصادي فإن حجم الاستثمارات الاقتصادية الإماراتية في تركيا يتزايد بشكل كبير، وكذلك فإن العديد من الشركات التركية قد كسبت العديد من التعهدات الكبرى في دولة الإمارات العربية في السنوات القليلة الماضية، تعطل بعضها بسبب سوء العلاقات بين البلدين، كل ذلك يفرض على حكومات الدولتين مواكبة الازدهار في العلاقات الاقتصادية بتواكب مع ازدهار في العلاقات السياسية، فالاستقرار السياسي الناجح في كلا الدولتين سيؤول لمزيد من التعاون الاقتصادي أيضا، وقد يكون تراجع العلاقات الاقتصادية التركية الروسية بسبب العدوان الروسي على الأراضي التركية، ومحاولة روسيا فرض أجندتها السياسية والاقتصادية على المنطقة أحد أسباب التقارب التركي الخليجي عموماً، والإماراتي بدرجة ما، وبالأخص ان سياسة التفاهمات الروسية الأمريكية تبدو أنها على حساب مصالح الدول العربية والخليجية وتركيا أيضاً، وانها لصالح أطراف إقليمية أخرى، وهو ما تنبهت له القيادة السعودية من قبل، ويفرض على دول الخليج بعامة بما فيها دولة الإمارات أن تبحث عن توسيع مدى صداقاتها مع الدول الصديقة والقوية مثل تركيا.
إن الحفاوة والاهتمام الرسمي من كبار المسؤولين الإماراتيين، عند استقبال وزير الخارجية التركي، يُعطي مؤشرا على ارتفاع درجة التقارب التركي الاماراتي، والأرجح أن التعاون الثنائي والإقليمي هو الدافع إلى هذا التقارب الطبيعي، ولكن لا يعني هذا التقارب أن كل نقاط الخلاف التركي الإماراتي سوف تنتهي سريعاً، وبالأخص فيما يدور من اهتمام حول الموقف من الأوضاع السياسية في مصر، لأن الموقف التركي حريص على مراعاة المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان المصري والعربي والمسلم، بغض النظر عن ازدواجية المعايير لدى الغرب إذا ما تعلقت حقوق الإنسان بالعرب والأتراك والمسلمين خصوصا.
وليس بالضرورة أن يكون التقارب التركي الاماراتي متعلق بعناوين عامة مثل السيسي و"الإخوان" ومحمد مرسي، لأن الموقف التركي وإن كان مدافعاً عن المظالم التي تعرض لها الإخوان المسلمون من الحكم العسكري ليس لكونهم إخوان مسلمين، وإنما لكونهم مصريين لهم حقوق إنسانية وسياسية مثل غيرهم من الشعب المصري، وتعدي أي رئيس على شعبه بالقتل والإجرام وسفك الدماء لا ينبغي ان يمر دون محاسبة من قبل المسلمين قبل غيرهم، ولكن مصيره النهائي هو لشعبه وليس من الدول الخارجية، التي تقرر سياستها الخارجية على أساس إحترامها هي للعدالة وحقوق الإنسان، وكل مظاهر استقبال تركيا للاجئين العرب هي لأسباب إنسانية سواء كانوا من المعارضة المصرية أو من المعارضة السورية أو من المعارضة العراقية أو اليمنية أو الاماراتية أو غيرها، وهذا بحسب التزام تركيا بحقوق الإنسان بحسب مواثيق الأمم المتحدة أولاً، وبمواقف الاتحاد الأوروبي الذي يفرض على تركيا شروطاً في ذلك ثانياً، فلو لم تستقبلهم تركيا فإن أبواب أوروبا مفتوحة لهم، وبقاؤهم في تركيا هو بسبب اختيارهم وليس بدعوة ولا بطلب من الحكومة التركية.
لذا فإن مطالب الحكومة الإماراتية بتسليم سبعة من المعارضة الإماراتية المقيمين على الأراضي التركية هو أمر لا تملك الحكومة التركية مخالفة القانون الدولي والأوروبي فيه، أي أن تركيا لا تملك حق تسليمهم، لأنهم يتمتعون بمعاهدات الأمم المتحدة كلاجئين، فالأمر قد يعود للأمم المتحدة في إبقائهم في تركيا أو بترحيلهم إلى دولة أخرى، فوجودهم في تركيا لا يعني أنهم يحظون بترحيب أو مساعدة الحكومة التركية، فبريطانيا مثلا قدمت الجنسية لقادة المعارضة الإماراتية، وقد كانوا أخطر على الإمارات من الإماراتيين الذين يعيشون في تركيا، هم من اختاروا بأنفسهم الاقامة في تركيا، فهؤلاء الأشخاص وعوائلهم يتم تدارس قضيتهم من خلال عهدة الأمم المتحدة وليس عهدة الحكومة التركية فقط.
أما التعاون العسكري التركي الاماراتي فهو في توسع بحكم التعاون الدولي بمكافحة الارهاب، وقد وصلت بضع طائرات إماراتية حربية إلى قادة انجيرليك التركية، فهذا التعاون ليس بالضرورة أن يفرض نوعا من الابتزازات المتبادلة لاتخاذ مواقف من دولة ثالثة مثلاً، بل إن السياسة التركية رفضت الابتزازات السابقة، بما فيها الضغوط الاقتصادية السابقة، ولا تفكر بسياسة الابتزاز ضد أحد، ولكنها في نفس الوقت لا تسمح لأي معارض أن يتخذ الأراضي التركية مقراً لأعمال عدائية أو إجرامية أو ارهابية في دولة أخرى، بما فيها أي معارضة إماراتية أو عربية أو إسلامية أو غيرها، فحقوق الإقامة هي لأسباب إنسانية بما تكفلها المواثيق الدولية وليست ضد دولة أخرى، حتى لو كانت في خلاف سياسي معها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس