عبد القادر محمد علي - الخليج أونلاين
دفعت ظروف الحرب مهندس الحاسوب أحمد المصري إلى الخروج من مدينته إدلب صوب أنطاكية التركية، حيث عمل بائعاً للملابس، وبعد وعود بظروف عمل أفضل قدم إسطنبول للعمل نادلاً في مطعم فيها، منفقاً آخر نقوده على تذكرة السفر إليها، حيث جوبه بمفاجأة رفض مدير المطعم تشغيله ولو غاسل صحون خوفاً من التفتيش عن العمال غير النظاميين، وبعد سعي أصدقاء للمهندس المحزون عثروا له على عمل له في فرن في منطقة أسكودار حيث قاسى العذابين البدني في دورة عمل لا ترحم، والمعنوي من إهانات واستهزاء إلى تلقي الأوامر بتنظيف مراحيض الفرن يومياً، ليتذكر بأسى محل تصليح الإلكترونيات الذي كان يملكه في إدلب عازماً على العودة إليه حال ادخاره ثمن تذكرة السفر.
قصة هذا المهندس ليست استثناء عن نسق عام لمعاناة الأكاديميين وحملة الشهادات الجامعية السوريين في بحثهم عن فرص عمل في إسطنبول، عاصمة المال والأعمال في تركيا، والنموذج المصغر لها، إذ لم يستثن النزيف البشري من سوريا نتيجة الحرب الطاحنة فيها فئة من الفئات، ومن بين ركام خسارات متنوعة يبقى نزيف الأكاديميين الأخطر على مستقبل البلاد.
- "واقع محزن مؤسف"
ووفق تصريحات تركية فإن عدد اللاجئين السوريين فيها وصل إلى ٣ ملايين لاجئ، يعيش في إسطنبول منهم 394 ألفاً و556 لاجئ بحسب معطيات مديرية الهجرة التابعة لوزارة الداخلية، وتؤكد دراسة مشتركة أعدها اتحاد جمعيات أصحاب الأعمال (TİSK) التركي ومركز أبحاث السياسات والهجرة في جامعة هاجيتيبه (HÜGO) أن نحو 35 ألف لاجئ سوري هم من حملة الشهادات الجامعية.
وفي اتصال أجراه "الخليج أونلاين" مع البروفسور أسامة الحموي، رئيس رابطة الأكاديميين العرب في تركيا، أكد أن الرقم المذكور ذو مصداقية أو ربما هو أقل قليلاً من الواقع، وعرج في حديثه إلى حال الأكاديميين في إسطنبول مبيناً أن "فرص العمل الأكاديمية في إسطنبول تتضاءل نتيجة التخمة الكبيرة من الأكاديميين فيها، لكن في المدن الأخرى الوضع أفضل؛ ونتيجة لهذه التخمة فمن لا يجد وظيفة تتناسب مع تحصيله العلمي يضطر إلى البحث عن أي عمل يتدبر به شؤون حياته، وهذا من جوانب الواقع المحزنة والمؤسفة".
وفي سؤال لـ"الخليج أونلاين" عن العقبات التي تعترض توظيف الأكاديميين في الجامعات التركية مثلاً أكد الدكتور الحموي أن "ممّا يعترض التوظيف عقبات منها حاجة سوق العمل؛ لأن أكثر المطلوب في الجامعات هم المتخصصون في اللغة العربية والعلوم الشرعية، كما تواجهنا عقبة عدم إتقان اللغة التركية أو الإنجليزية ممّا يعيق القدرة على تواصل الأستاذ مثلاً مع بيئته العلمية، غير أن من المسموح به قانوناً في الجامعات التركية استيعاب 5% من الطاقم التعليمي من الأساتذة الأجانب، وقد بلغ عدد الأكاديميين السوريين الذين دخلوا صفوف التدريس الجامعي العام الماضي 270 أكاديمياً، وفي المجمل فثمة 500 أكاديمي سوري يعملون في جامعات البلاد".
ووفقاً للدكتور الحموي فقد تواصلت الرابطة مع مسؤولي التعليم العالي في تركيا (YÖK) واقترحت تعديل النسبة المذكورة إلى 10%، "وقدمنا مقترحات حلول لمشاكل الأكاديميين لقيت قبولاً من الجانب التركي، وتم تأسيس لجنة استشارية تتبع اليوك من الأكاديميين العرب والأتراك لأجل ذلك، وما يعيق تطبيقها هو بعض العقبات البيروقراطية".
- أكاديميون في معمل خياطة
ورغم وجود عدد من المؤسسات العلمية، كالمدارس والمعاهد ومراكز الأبحاث، استطاعت احتواء جزء بسيط من الأكاديميين السوريين، لكن السواد الأعظم منهم وجد نفسه مضطراً تحت ضغط ظروف الواقع الاقتصادي إلى الالتحاق بما يتيسر من عمل..مهما كان.
في معمل للنسيج بمنطقة توزلا بإسطنبول الأوروبية تحدث أكاديمي سوري من جسر الشغور، رفض التصريح باسمه، عن الواقع معتبراً أن أكثر فئات السوريين مظلومية في سوق العمل "هم من أفنوا سنوات العمر في الدراسة والتأهيل العلمي، وعندما حان قطاف الثمرة وجدوا أنفسهم وقد عادوا إلى ما تحت الصفر يبحثون عن عمل يدوي يكفيهم غائلة الأيام، في حين أن أصحاب المهن بعد لجوئهم إلى تركيا التحقوا بمهنهم".
ويؤكد صاحب دبلوم التأهيل التربوي في اللغة العربية لـ"الخليج أونلاين" أنه حاول العمل في المؤسسات التعليمية التابعة للمنظمات الإغاثية في المناطق المحررة، لكن فشو الواسطة هناك حرمه وغيره واضطره إلى
القدوم إلى إسطنبول، حيث حاول الالتحاق بالمدارس السورية لكنه لم يوفق أيضاً في الوصول إلى فرصة عمل، فاضطر إلى العمل في معمل نسيج منذ سنة ونصف السنة، حيث تدرج هناك حتى أصبح مسؤول قسم، أما الآمال الأكاديمية "فهي بعيدة جداً الآن إن لم تكن قد انتهت تماماً"، بحسب تعبيره.
ويوافقه على ذلك حامل ماجستير اللغة الفرنسية من جامعة حلب، الذي رفض التصريح باسمه، مؤكداً أن الظروف الآن لا تسمح بترف الطموحات الأكاديمية "إن لم تتغير الظروف فلا أمل!"، وقد بين لـ"الخليج أونلاين" أن عدد السوريين في المعمل يبلغ 100 عامل من أصل 300، بينهم الآن 4 أكاديميين أحدهم محام يبلغ من العمر 45 عاماً مارس مهنته سنوات طويلة قبل أن يفد إلى إسطنبول هرباً من الحرب.
وقد واجهوا عموماً، ولا سيما من أتى أولاً، صعوبات أهمها حاجز اللغة التركية، والتمييز في الرواتب بين السوريين والأتراك "رواتبنا أقل من الأتراك بـ400 إلى 500 ليرة"، وبعض الميزات التي تتعلق بالعطل، ولكن أشق الصعوبات التي واجهت الأكاديميين كانت اختلاف بيئة العمل بشكل كامل وطريقة التعامل غير اللائقة وغير المقبولة بالنسبة لهم، "بعد أن كنا أساتذة فالآن أصغر عامل يستطيع أن يمشيك على كيفه" كما قال أحدهما.
وصعوبة التكيف مع هذا التغير هو الذي دفع بأكاديميين وحملة شهادات جامعية عديدين إلى محاولة الخروج من البلاد فمنهم من عاد إلى سوريا، ولكن السفر ليس إلى الجنوب دوماً "كان معنا طالب هندسة بحرية حاول إكمال دراسته هنا ولم يستطع، فخاض البحر إلى ألمانيا حيث يحاول إكمال دراسته هناك".
- سوريا وتركيا.. ميزان الربح والخسارة
ورغم أن خسائر سوريا قد تصل إلى 1.3 تريليون دولار إن استمرت الحرب حتى عام 2020، فإن الخسارة الحقيقية لسوريا، وفقاً للدكتور عبد الرحمن الجاموس، "تكمن في خسارة الموارد البشرية (خصوصاً الباحثين والأكاديميين) بين قتل وتهجير ونزوح، مثلاً تحتاج لإحلال طبيب أو أستاذ جامعي مكان آخر إلى 30 سنة بعد الإنفاق عليه صحياً وتعليمياً؛ وهذا يعني أن هناك كلفة هائلة لا بد من دفعها من مستقبل سوريا".
وبحسب ما صرح الدكتور في الاقتصاد واستراتيجيات الإدارة لـ"الخليج أونلاين" فإن تركيا هي المستفيد الأكبر من هذه الناحية "إلا أن سياسات الحكومة التركية وبرامجها لم تعمل على دمج الأكاديميين السوريين في جامعاتها، ربما لقلة الشواغر ولعوائق اللغة وغيرها"، وفي رأيه أن التركيز على استيعاب المتخصصين في اللغة العربية والإلهيات لم يكن سياسة موفقة، مقترحاً على الحكومة التركية "استيعاب الباحثين والأكاديميين من حملة الدكتوراه وكثر منهم بمرتبة بروفيسور ومنهم حملة تخصصات نادرة في الطب والهندسة والاقتصاد، وبعضهم لديهم أبحاث علمية محكمة، أو على الأقل الاستفادة منهم في مراكزها البحثية؛ لأن هذا الإجراء سيزيد من الإنتاج العلمي -الأبحاث- وسيؤدي من ثم إلى رفع ترتيب الجامعات التركية في التصنيف الدولي"، مضيفاً أن ذلك لن يشكل عبئاً مالياً كبيراً نظراً لرغبة معظم الأكاديميين السوريين في التفرغ لجزئي، كما أن إتقان أغلب الأكاديميين السوريين لاختصاصاتهم باللغة الإنجليزية سيسد العجز في الجامعات التركية من هذه الناحية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!