محمد إلهامي - المعهد المصري للدراسات
لا شك أن ما وقع في تركيا من انقلاب عسكري في 15 يوليو 2016، حافل بالدروس، وكلٌّ يغني على ليلاه، ونحن أصحاب ليلى الثورة التي تنازع الفشل وتريد أن تعود مرة أخرى، وما ذلك على الله ببعيد. لذا فالدروس التي تخصنا غير التي قد ينتبه لها غيرنا.
أولاً: هل نحتاج بكاءً على اللبن المسكوب؟
إن بعض البكاء مفيد، ونحن في ظل المشهد التركي يجب أن نبكي على عدد من الأمور، أهمها ثلاثة:
1. أن قيادات الثورة المصرية اعتقلت بأدنى وأهون مجهود، حتى أن الانقلابيين لم يفكروا في قتلهم ولم يتوقعوا منهم مقاومة، لذلك بُنِيَت خطة الانقلاب على اعتقالهم ومحاكمتهم. وعلى رأسهم الرئيس مرسي الذي كان يمكنه الاحتماء بأنصاره، لكنه فضَّل أن يكون الأسير الصامد على أن يكون قائد المعركة، ونعم إن الأسير الصامد خير من المستسلم الخائن إلا أن الفارق ضخم بينه وبين قائد المعركة.
2. أن الانقلاب كان يجري علانية أمام الجميع عبر الإعلام المسعور الذي ينادي بالانقلاب العسكري، بحركة تمرد، بتحذير هادئ قبل أسبوع من الانقلاب، ببيان يمهل الأطراف ليومين، بل إن السيسي ذهب إلى مرسي في القصر اليوم التالي على بيان الـ (48 ساعة) ولم يتوقع أن يُقتل أو يُعتقل!! وأشد من هذا أنه دعا الكتاتني ليكون حاضرا لمشهد ترتيب ما بعد مرسي قبل الإعلان عن الانقلاب ليلة 3 يوليو! كل هذا لم يقابله تحرك جادٌّ لمواجهة الانقلاب، بل ظل الذي يُرَوَّج بين أنصار الرئيس أن الجيش مع الشرعية حتى لحظة إعلان الانقلاب، ما جعل الجموع الهائلة التي كانت قادرة على حسم أي معركة في حكم المشلول.
3. أن الثورة حافظت على سلميتها، واستسلمت للخطاب الإعلامي التضليلي الذي يضعها في الركن الذي تريده السلطة، ركن المستسلم لمؤسساتها العسكرية والأمنية والإعلامية والقضائية، ولو أن الثورة قررت المقاومة وتعاملت بجد مع إنشاء جهاز أمني وحماية خاصة للرئيس ولقيادات الثورة فضلا عن مجموعات تستطيع استهداف الذين يمثلون خطرا عليها ولو بالاعتقال والحبس.. لكان الحال غير الحال تماما!
ثانياً: ماذا نتعلم من الانقلابيين؟
بالإمكان أن نسرف في البكاء على اللبن المسكوب، لكن ليس هذا منهج من يريد العمل، ولذلك نخرج من البكاء إلى الفداء، ومن ساحة اليأس إلى قاعدة الدرس.
لقد كُشِفَتْ بعض مراسلات الانقلابيين، وأهم ما نستفيده من هذا هو:
1. اختيار الهدف: فأول ما ابتدأوا به مهاجمة مقرات أردوغان بطاقة عددية كبيرة مع الأمر الواضح باعتقاله أو قتله، ثم وضعوا في قائمة الأهداف كافة الموالين له من شخصيات تشغل مواقع حساسة أو أجهزة تابعة له: رئيس الأركان، قائد الجيش الأول، رئيس المخابرات بالإضافة إلى مقر المخابرات ومقر القوات الخاصة (الموالية لأردوغان) ومقرات الشرطة ثم البلديات التابعة لحزب العدالة والتنمية. ويتوازى هذا مع: قطع الاتصالات والسيطرة على التليفزيون الرسمي ومحاصرة مطار أتاتورك والسيطرة على مركز إدارة الأزمات.
والسؤال هنا، وهو المطلوب، هل تملك الحركة الثورية قائمة بالشخصيات والأهداف التي ينبغي السيطرة عليها أو حتى إشغالها في اللحظات الأولى من موجة ثورية؟ أم أن الحراك الثوري سيظل يخرج ليموت في الشوارع مراهنا على المشهد الذي لم ولن يتكرر: مشهد يناير 2011م؟!
2. اختيار التوقيت: لا يسهر الناس في تركيا، فإذا صليت العشاء وخرجت من المسجد رأيت الشوارع قد خلت من الناس، والإجازة الأسبوعية هنا السبت والأحد، وقد كان المقرر أن يبدأ الانقلاب الساعة الثالثة فجر السبت ويُعلن عنه في السادسة صباح السبت، أي أن الوقت كان في أضعف لحظات عمل جهاز الدولة الإداري، وفي أقل أوقات الحركة بالنسبة للشارع التركي في اليوم وفي الأسبوع.
ونفس هذا الوقت كان فيه أردوغان يقضي إجازته في مرمريس بعيدا عن أنقرة أو إسطنبول، ويُتوقع أن غالبية الشخصيات الإدارية المهمة تستعد لإجازتها الأسبوعية أو قد بدأتها بالفعل بعد انتهاء العمل يوم الجمعة.
والسؤال هنا، وهو المطلوب، هل ترتب الحركة الثورية لفعاليتها الجماهيرية أو حراكها النوعي في توقيت يراعي حالة الجهاز الأمني والعسكري ويضغط عليه أم يقتصر الأمر على تواريخ الذكريات التي صارت تواريخ مذابح أيضا!
3. الحسم الكامل: إن الانقلابات هي الوجه الآخر للثورات، وحديث الانقلابات والثورات هو في الحقيقة حديث الحرب نفسه، حيث لا يكسب طرف إلا بمقدار ما يخسر الآخر، وأي تهاون مع العدو قد يساوي انقلاب نتيجة الحرب كلها. وهذا ما فعلته سائر الانقلابات في الثورات الناجحة عبر التاريخ، وهو ما فعله بنا السيسي كذلك.
لقد كانت الأوامر باعتقال أردوغان أو قتله في الحال، فتم قصف مقره ثلاث مرات واقتحمته قوة مكونة من 40 جنديا، وإطلاق النار عند أي محاولة مقاومة من الشرطة، وقُصِف مبنى المخابرات ومقر القوات الخاصة، وكسرت الطائرات الحربية حاجز الصوت، ومات في الليلة الأولى مئاتٌ إما بالرصاص أو بدهس الدبابات والمدرعات.. وكان لدى الكل أوامر بإطلاق النار.
ولأن الجميع يعرف أنها ضربة واحدة: حياة أو موت، فلقد كان فشل جزء بسيط من الخطة (اغتيال أردوغان) يساوي أن يفكر بعض من لم ينكشفوا بعد في التراجع وإعادة التموضع، وهو ما أدى إلى مزيد من تدهور الخطة وفشلها.
ثالثاً: ماذا نتعلم من أردوغان وأنصاره؟
1. القيادة رأس الثورة: إن لحظة ظهور أردوغان حيا طليقا هي لحظة إعلان أن الانقلاب لم ينجح (بعد)، فهي لحظة بداية المعركة، وكانت لحظة نجاح الانقلاب هي اللحظة التي سيظهر فيها أسيرا أو قتيلا، كما أن لحظة الإجهاز التام على الإنقلاب هي لحظة إظهارهم قادة الانقلاب مقيدين يُساقون إلى الاعتقال!
لحظة ظهور أردوغان حرا طليقا هي اللحظة التي تبعتها كل المواقف السياسية أو الميدانية، ورغم أن بن علي يلدرم ظهر قبله في اتصال هاتفي إلا أن ظهوره لم يكن ذا قيمة مؤثرة، فالحق أن الشعوب تسمع للزعماء لا لمجرد من يتولون المناصب العليا.
من بعد لحظة ظهور أردوغان ظهرت بيانات الآخرين بما فيهم المعارضة السياسية (هذه المعارضة ظلت طوال سنين وحتى أشهر ماضية تلمح للجيش بالتدخل!)، وهي تلك اللحظة التي ألقت الخوف في قلوب بعض الانقلابيين فتراجعوا فازداد الأمر ارتباكا وتدهورا.
2. قرار المواجهة: لو ظهر أردوغان لمجرد أن يشرح أو يقترح حلا أو يدعو لوساطة أو يعلن موافقته على اقتراح لما حصَّل شيئا شعبيا كبيرا، لكن ظهوره كان قصيرا وواضحا وحازما: الدبابات التي في الشوارع لا تتبع الشعب، يجب تحرير المطارات، هذه محاولة انقلابية وكل المشاركين فيها سيدفعون الثمن، على الشعب النزول إلى الشوارع والميادين وتحرير مطار أتاتورك.. هذه العبارات القصيرة (والتي لم تخل من عبارات عاطفية كالحديث عن محاولة قتله وقصف مكانه) هي التي نقلت الشعب من موقع المشاهد المشلول الذي لا يدري ماذا يحدث إلى موقع الفاعل المتحرك المبادر المهاجم. قبل هذا التوضيح لزم الناس بيوتهم يترقبون ويتخوفون، ولا يدرون هل هذه الدبابات التي في الشارع انقلاب أم هي تابعة للرئاسة لإجهاض الانقلاب، وإن كانت هذا أو ذاك فماذا يكون دورهم الآن.
قرار المواجهة هذا حرك الناس والطاقات جميعا، رسائل تصل من وازرة الاتصال إلى هواتف المواطنين تدعوهم للنزول، وزارة الأوقاف عممت على المؤذنين والأئمة فتح المساجد وإعلان التكبيرات، بلديات حركت سيارات المطافئ والنظافة تحركت لتحاصر ثكنات عسكرية أو لتقطع طرق إمدادات عسكرية أو لتقتحم مدارج طائرات في قواعد جوية [وكل هذا صنع شللا في حركة الانقلابيين] وأناس يحاصرون الدبابات أو يغلقون الطرق بسياراتهم وأنفسهم أمامها أو أمام أي حركة من قاعدة عسكرية.
هذا كله وغيره ما كان ليحدث لولا أن الناس وصل إليهم قرار المواجهة، فصار كلهم يبدع بما استطاع!
3. القوات الخاصة: لم يكن ممكنا حماية أردوغان ولا إنقاذه (وإنقاذ البلاد كلها من ورائه) لولا أولئك الذين اصطنعهم وكسب ولاءهم من المسلحين، مهما كان عدد الشعب في الشوارع والميادين فإنهم لا يصمدون أمام الرصاص والقذائف المنهمرة عليهم من المدرعات والدبابات والطائرات، هؤلاء القوات الخاصة منهم من كان في مقراته يصد هجوم الانقلابيين ومنهم من خرجوا إلى الشوارع يواجهون جنود الجيش بالرصاص والتسليح الخفيف، ومنهم سيارات كانت تمشي في الشوارع تدعو الناس إلى النزول وتعدهم بإمدادهم بالأسلحة.
عند لحظة المواجهة المسلحة يكون المشهد قد اعتدل واتزن، صارت القوة أمام قوة، فكيف بقوة تحرص على المواجهة يقودها زعيم ما زال يسير الأمور ويتكرر ظهوره مقابل قوة قد ساد الارتباك صفوفها ووجدت نفسها أمام وضع لم تكن تتوقعه ميدانيا وسياسيا؟!
وأثناء كتابة هذه السطور صدر تصريح يقول بالتفكير في صدور قانون بتسليح الشعب لمواجهة مثل هذه الأوضاع فيما بعد، ولو صدر هذا القرار فسيكون تاريخ استقلال تركيا الحقيقي. فالشعوب المسلحة هي التي لا يحكمها استبداد ولا يقهرها احتلال.
لم تنته الدروس بعد، فما زال لدى تركيا الكثير مما يمكن أن تقدمه للبشرية جمعاء (1).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس