مخلص برزق - خاص ترك برس
عجيبٌ أمر أشقائنا الأتراك، فمن يحظى بالعيش بينهم لا يزيده تعاقب الليل والنهار إلا إعجابًا بصفاتهم وسجاياهم الحميدة.. إنك لا تقوى على مسابقتهم في انطلاقهم إلى أعمالهم مبكرين - يسعون في مناكبها - فالكثير منهم يصلي صلاة الفجر التي تتأخر عندهم إلى دقائق ما قبل الشروق بما يسمى بالإسفار على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ثم تغصُّ الشوارع ووسائل المواصلات بهم ويتنفَّس الصبح معهم بحقّ، على عكس الكثير من عواصمنا العربية التي تغفو وتغطّ في شخير طويل حتى رأد الضحى.
كان ملفتًا لانتباهي مشهد عمال الحدائق وهم يغرسون شتلات الأزهار أثناء هبوب عاصفة ثلجية تخيلت لوهلة معها أن أحدًا لن يجرؤ على الخروج من بيته بسببها، وإذ بجميع العاملين والموظفين وطلاب المدارس والجامعات يتكيَّفون مع ذلك الظرف ويتقحَّمون الأجواء العاصفة ليصلوا إلى أماكن عطائهم!!
كانت محاولة الانقلاب الآثمة التي تورَّطت بها جهات كثيرة داخلية وخارجية التحدي الأكبر لذلك الشعب المثابر الذي كثيرًا ما أشعر بأنه يشبه إلى حد كبير في جَلَده وانضباطه جموع النمل التي لا تكل ولا تملّ.
كنت أتابع اللحظات الأولى لما يجري ونفسي تحدثني بأن مكرهم سيبور وأن الليل سينجلي بصبح مشرق، ولم يطل انتظاري كي ألمح علامات الفجر الصادق حين شقّت فضاء حيِّنا الهادئ في إسطنبول أصوات أبواق السيارات الغاضبة بعد لحظات معدودات من دعوة الرئيس أردوغان شعبه للنزول إلى الشوارع والتوجه إلى المطارات والجسور ومواجهة الانقلابيين.
إنه النمل إذن يخرج من مساكنه غير آبه أن تحطمه الدبابات أو يمزقه رصاص الغادرين، لم أطق حينها البقاء لحظة واحدة أتابع ما يجري عبر شاشة جوالي، وقررت الخروج لأشهد تلك اللحظات الحاسمة التي لا تتكرر كثيراً في تاريخ الأمم والشعوب.
عندما وصلت إلى ناصية الشارع القريب من بيتنا أدركت بأنني تأخرت كثيراً عن مواكبة شعب يأبى إلا أن يكون من السابقين المسارعين لردِّ الظلم وكفِّ الأذى. وما رأيته كان كافياً لأرسل رسالة صوتية وعلى الهواء مباشرة للأصحاب والأحباب خارج تركيا بأن يجهزوا أنفسهم للبكاء فرحاً بدل البكاء حسرة وجزعًا، وقد كان.
أضمرت في نفسي بعدها أمرًا أردت أن أجاري به أحفاد السلاجقة والعثمانيين، وبدا أن ذلك يمكن أن يتحقق لي بشدِّ الرِّحال إلى ساحة "يني كابي" لحضور الحشد المليوني "تجمع الديمقراطية والشهداء" تنديداً بالمحاولة الانقلابية وأصحابها الخونة المأجورين، ومشاركةً لأفراح الأتراك بانتصارهم المؤزر المؤيَّد من ربِّ العزَّة جلَّ في علاه.
خرجت مبكرًا وقد تزوَّدت بقارورة ماء بارد لذلك اليوم المشمس الحار من أيام آب "اللهَّاب"، وطاقية شبابية تحسبًا لوقفة طويلة تحت الشمس، ومضيت نحو محطة قطار الأنفاق "المترو" وفي نفسي أنني سأكون من أوائل الواصلين إلى هناك لأسجل نقاطاً في مرمى إخواننا الأتراك.
ويا للهول، فقد وجدتهم سبقوني بأعداد لا قبل لي بها، المحطة تكتظ بالرجال والنساء والأطفال وعلى قسمات وجوههم من الحماس والتحفز ما يشعل الحماس بين جنبيك وهم يلوِّحون بالبيارق التركية الحمراء على نغمات النشيد الامبراطوري العثماني الذي كان يتردد في جنبات المحطة.
حشرت نفسي بين تلك الجموع وانطلق القطار بنا مستقبلًا في كل محطة تالية المزيد المزيد من الركاب، حتى إذا وصلنا إلى محطة "كرازلي" التي ينطلق منها القطار المتجه نحو "يني كابي" كان المشهد عجيبًا، أطلقت معه تنهيدة طويلة، ونظرت إلى ابنتي التي أبت إلا مرافقتي لتخوض غمار تلك التجربة الفريدة، بادلتها ابتسامة الاستسلام قائلًا لها: يبدو أنَّ أصحابنا الأتراك مصمِّمون على احتكار الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية وحدهم!!
ما كنت أتصور أنني لن أجد موطئ قدم في تلك المحطة الواسعة الأرجاء المبنيَّة على أحدث طراز لتستوعب أعدادًا كبيرة من الركاب، غير أن ما جرى في ذلك اليوم خالف كل التوقعات. أعداد غفيرة جدًا تتزاحم لتصل إلى مقطورات المترو.
بشقِّ النفس تمكنت مع ابنتي من الوصول إلى الرَّصيف المحاذي للقطار في محاولة أخيرة لتحقيق أملنا للوصول إلى "ياني كابي"، وهاهي أضواء القطار تلوح من بعيد وزعيقه ينبئ بقرب وصوله غير أن تكبيرات الفرح والابتهاج بوصوله غطّت على صوته.
وصل القطار، ولكنه -ويا للأسف- وصل ممتلئًا لينزل منه عدد يسير جدًا، ويندفع مكانهم كتلة بشرية لم يبق معها أي متنفَّس داخله، وكان ذلك كفيلاً بأن يجعلنا نغضُّ الطَّرف عن مواصلة محاولتنا، وبخطوات بطيئة متثاقلة عدت حزينًا ألا أجد ما يحملني إلى موقع الحدث التاريخي الكبير في ساحة "يني كابي" غير أنَّ عزائي كان بذلي أقصى الجهد للوصول إليه، وما تابعته من مشاهد تسرُّ الخاطر وتبهج النفس بدءًا بافتتاحه بالقرآن الكريم نديّاً عطرًا مؤثِّرًا، ومرورًا بتلك اللوحة الفريدة من التلاحم بين كافة الأحزاب والقوى السياسية واجتماعها تحت مظلة واحدة، وما تضمَّنته كلمة أردوغان من رسائل بليغة شملنا عبقها حين قال: "إن الحدود التي تربطنا مع أفئدة ملايين الناس في العالم أوسع بكثير من حدودنا الجغرافية، الأفئدة لا حدود لها"، وقد صدق في قوله ذاك وأصاب كبد الحقيقة.
ثم كان المشهد النوراني الذي أضاء فيه المشاركون الساحة بأنوار جوالاتهم في رسالة حبٍّ أخَّاذة بين القائد الذي دعاهم من شاشة جواله إلى إنقاذ تركيا فلم يتأخروا ثانية واحدة عن إجابة الدعاء، وهاهم يبادلونه التحية مع رسالة جميلة جذَّابة أننا جاهزون ومستعدون لتلبية النداء في أي وقت، وأنَّ جوالاتنا التي شاهدنا رسالتك بها بانتظار تعليماتك: فاصلة كانت أو نقطة!!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس