عبد القادر عبد اللي - المدن
لم تكن زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الأربعاء إلى تركيا، كسابقتها التي غلب عليها الطابع السياحي؛ فكل لحظة منها يمكن قراءتها باعتبارها رسالة موجهة من أحد الطرفين، الأميركي أو التركي، إلى الآخر.
الرسائل كثيرة جداً بدءاً من خفض سوية استقبال نائب الرئيس الأميركي إلى نائب محافظ تركي، وليس انتهاء بالتأكيد على الصداقة العميقة بين الولايات المتحدة وتركيا.
ولأن صلاحيات نائب الرئيس الأمريكي محدودةٌ جداً، فقد قال بايدن إنه جاء إلى تركيا بتكليف من الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبهذا يوجه إلى الرأي العام رسالة مفادها أنه قادم ممثلاً لقمة هرم السلطة الأميركية، وأن ما يقوله يعبر عن رأي الإدارة الأميركية بشكل رسمي.
قبل الزيارة أبرزت وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها أن زيارة بايدن إلى تركيا تهدف إلى ترميم العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، وكانت هذه العلاقات قد خربت مع انطلاق الثورة السورية نتيجة التباين بالمواقف "الحقيقية" بين أنقرة وواشنطن من النظام السوري، وسياسة الولايات المتحدة في العراق.
لم تبرز هذه الخلافات بداية إلى العلن، ولكن اجتماع جدة لتشكيل "التحالف الدولي لمحاربة داعش" أبرزها إلى السطح، فقد كان التباين بين الموقفين التركي والأميركي كبيراً، وقدمت تركيا للاجتماع مشروعاً لمحاربة "داعش" لا يستفيد منه النظام في دمشق ويعتمد على دخول قوات خاصة متعددة الجنسيات ذات كفاءات قتالية عالية تحارب التنظيم على الأرض بدعم ناري جوي، لأن الجو وحده لا يمكن أن يحسم معركة.
المسؤولون الأتراك اعتبروا أن الولايات المتحدة غير جادة في محاربة التنظيم، وبالمقابل بدأت الولايات المتحدة هجوماً سياسياً على الحكومة التركية بأنها الداعمة الرئيسة لـ"داعش"، وشارك به يومئذ بايدن نفسه، قبل أن يعتذر لاحقاً.
إثر هذه الحملة رضخت تركيا للمطالب الأميركية، وانضمت إلى "التحالف الدولي"، والتزمت بالأوامر العسكرية، وقصفت طائراتها الأهداف التي تحددها غرفة العمليات التي تقودها الولايات المتحدة.
في هذه الأثناء استنسخت الولايات المتحدة الخطة التركية لمحاربة "داعش"، ولكنها اعتمدت بدلاً من قوات خاصة مدربة تدريباً جيداً، على "قوات سوريا الديموقراطية" التي يشكل حزب "الاتحاد الديموقراطي" عمودها الفقري، في سوريا، وعلى "الحشد الشعبي" الشيعي في العراق. وهذا ما فاقم الخلاف بين الطرفين، واعتبرت أنقرة أن سياسة الولايات المتحدة في سوريا تستهدف تركيا، وفي العراق تؤسس لشرخ عميق بين مكونات الشعب العراقي.
جاءت المحاولة الانقلابية في تركيا لتكون القطرة الأميركية التي طفح بها كيل تركيا، ولهذا اعتُبرت خطوة الحكومة التركية بالتوجه نحو روسيا وإيران رداً على الموقف الأميركي.
وتناولت رسالة بايدن الثانية هذا الموضوع، فجاء تصريحه يحمل جانباً كوميدياً إلى حد ما: "اعتقدت الولايات المتحدة الأميركية في البداية بأن العملية لعبة إنترنت، ولم تدرك خطورة الوضع".
كان تاريخ بدء العملية التي أسمتها تركيا "درع الفرات" أيضاً رسالة مزدوجة، فقد صادف الذكرى الخمسمائة لمعركة مرج دابق، التي هَزَمَ فيها السلطان سليم الأول، حاكم دمشق المملوكي. ولمَّح إلى هذا الأمر الرئيس التركي في خطابه صبيحة العملية عندما قال: "لا يمكن أن نقف متفرجين على ما يدور في منطقة كانت جزءاً منا قبل قرن واحد فقط". ومن جهة أخرى، لم يكن مصادفة أيضاً، وصول بايدن إلى أنقرة، مع بدء العملية.
صحيح أن عملية "درع الفرات" حظيت بالدعم الأميركي العسكري المباشر بمشاركة قواتها الجوية، والروسي غير المباشر بالموافقة قبل يوم واحد من العملية على استخدام الطائرات التركية للأجواء السورية بحسب المصادر التركية، فقد أراد الأتراك تقديم رسالة لبايدن تشرح فاعلية خطتهم التي قدموها في مؤتمر جدة، فكانت العملية بمثابة تقديم برهان على أنهم كانوا على حق.
وقد قدّم بايدن في هذا الموضوع رسالة مزدوجة، الأولى لحزب "الاتحاد الديموقراطي" مفادها: "إذا أردتم الحماية، فعليكم الالتزام بتعليماتنا"، وأخرى للحكومة التركية بإعلان دعم الولايات المتحدة لإخراج "الاتحاد الديموقراطي" إلى شرق الفرات.
لعل رسالة بايدن هذه فاجأت "الاتحاد الديموقراطي" أكثر من الجميع، وأربكته، وهذا ما جعل الناطق باسم "قوات حماية الشعب" ريدار خليل يُقدّمُ تصريحاً منح فيه المشروعية للقوات التركية من دون أن يدري، عندما اعتبر أن هذه القوات دخلت الأراضي السورية بالتنسيق مع النظام في دمشق. وأسماها قوة احتلال.
وبحسب كلام خليل، فالتنسيق مع دمشق يعطي هذه القوات مشروعية تتطابق تماماً مع المشروعية الروسية والإيرانية لدخول قواتهما إلى سوريا. فإذا كانت القوات التركية محتلة، فإنه وفق هذا التصريح لابد من اعتبار القوات الروسية والإيرانية قوات احتلال أيضاً، لأنها دخلت بناء على طلب من النظام السوري أو بالتوافق معه وبشكل أعلنته الأطراف المعنية كلها.
لقد رفض "الاتحاد الديموقراطي" بشكل حاسم رسالة بايدن، وأعلن أنه سيقاتل القوات التركية، ولكن وزير الخارجية جون كيري، أعلن الخميس أن "وحدات حماية الشعب" بدأت الانسحاب إلى شرق الفرات. وقد نقلت بعض وسائل الإعلام التركية القريبة من إيران أنباءً عن قصف المدفعية التركية لمواقع تابعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" على الضفة الغربية للفرات، من دون تأكيدها من الطرفين التركي والكردي.
قراءة هذه الرسائل، إن صدقت، تشير إلى فترة تشهد تحولات سياسية عديدة، ولعلها تفاجئ الجميع، على الرغم من توصية رئيس الحكومة التركية بعدم الاستغراب إذا حدثت مفاجآت في القضية السورية خلال الأشهر الستة القادمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس