صحيفة فابروسيك الروسية - ترجمة وتحرير ترك برس
في حقيقة الأمر، يرتبط تاريخ الشركس بشكل وثيق بتاريخ الإمبراطورية العثمانية التي كانت تمثل أقوى كيان سياسي في أواخر القرون الوسطى وحتى القرون الجديدة. وعلى الرغم من أن الشركس لم يشكلوا قط جزءا من هذه الإمبراطورية، حيث اقتصرت العلاقات على المعاملات السياسية والاقتصادية والأسرية وغيرها من العلاقات، إلا أنهم حظوا بمكانة هامة. وفي هذا الإطار شكل أحفاد الشركس جزء هاما من الطبقة الحاكمة وحققوا نجاحات كبيرة في الخدمة العسكرية والإدارية. وفي هذا السياق ينتمي الجزء الأكبر من الشركس إلى شعب القوقاز وبالتحديد الأبخاز والجورجيون.
في هذا الصدد، يظهر الشركس والأبخاز والجورجيون في ظل الإمبراطورية العثمانية إلى حد ما، على اعتبارهم حلقة موحدة تربطهم علاقات سياسية وثقافية ودينية مع شعوب القوقاز. وقد تم التطرق إلى التضامن العرقي الإقليمي بين المسئولين القوقاز والقادة العسكريين لأول مرة في أعمال المؤرخ التركي المعاصر، متين كونتا. (التضامن العرقي الإقليمي في القرن السابع عشر داخل المؤسسات العثمانية. المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط 1974 ص 237 ).
علاوة على ذلك، تم التطرق إلى تأثير العرقية الإقليمية على العلاقات داخل كتلة الجيش والإدارة في أطروحة، كارل باربر، الذي ناقش من خلالها نظام الحكم العثماني في دمشق في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وتم تقسيم العرقية الإقليمية وفقا لباربر إلى مجموعتين: المجموعة الغربية أو البلقانية التي تتألف أساسا من الألبان والبوسنيين، والمجموعة الشرقية أو القوقازية. (كارل باربر الحكم العثماني في دمشق 1708/1758. مطبعة جامعة برينستون 1980. ص 40 .41).
وفي الأثناء، تؤكد قائمة حكام دمشق هذا التقسيم. ففي الفترة الممتدة ما بين سنة 1516 وسنة 1758، تولى الحكم 16 باشا من المجموعة الشرقية (7 شركسيين، و4 من الأبخاز، و4 جورجيين، فضلا عن واحد من التتار المجاورة للقوقاز)، أما المجموعة الغربية فقد عرفت 21 حاكم أو باشا (11 من الألبان، و7 من البوشناق، و2 من الهرسك وواحد كرواتي). ومن المعلوم أن ممثلي المجموعات البلقانية ظهروا بصفة مكثفة في القرن السادس عشر، أما فيما بعد، وتحديدا في سنة 1600 أصبحت الأغلبية في السلطة من القوقازيين.
في المنطقة المجاورة لسوريا مباشرة، كثيرا ما يحال أيضا إلى الباشاوات الشركس على اعتبارهم حكام مقاطعات في إقليم الأناضول. وفي تقرير تابع للسفير الروسي بتركيا، بولغاكوف، بتاريخ 15 من شباط/فبراير سنة 1782، ذكر خبر استقالة باشا من الشركس يدعى، حسن باشا من منصب حاكم سيفاس وذلك إثر الشكاوي التي قدمها السكان المحليين، جراء أعمال الشغب التي شهدتها المحافظة، وذلك وفقا لما جاء في مجلة الحوادث والأخبار القسطنطينية. (مقتطف من ملحق تقرير بولغاكوف ودوبروفين. ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا ص 397).
عقب ذلك، تم تجريد حسن باشا من مهامه كما حرم من الحصانة، في حين تم إرساله إلى منفى في جزيرة سشيو. وفي الأول من أيلول/ سبتمبر سنة 1782، سُلم هذا المنصب لعثمان باشا الذي يعود أصله إلى الشركس. وقد أكد بولغاكوف أن منصب الباشا يعد تمثيلا لدور السلطان في المقاطعات. وفي ظل خوض المعارك مع روسيا، غالبا ما يجد الحاكم إلى جواره أشخاصا على دراية بالشؤون العسكرية ( المصدر الآنف ذكره، ص 762).
من بين الباشاوات الشركسيين الذين استلموا مهام في سوريا تبرز شخصية المعاصر أوليا شلبي، الشهير (الثلث الثاني من القرن السابع عشر) الذي كثيرا ما يظهر اسمه على صفحات كتاب الرحلات. (اسمه الحقيقي غير معروف، وهذا الاسم يعتبر اسمه المستعار، الذي كان قد اتخذه تبجيلا لمرشده، أو إمامه في البلاط، أوليا محمد أفندي).
من السمات المميزة لأوليا شلبي أنه يمثل نموذج الفارس الشركسي المثالي. ففي الواقع، ينحدر شلبي من إحدى قبائل الشركس، فضلا عن أنه كان شخصا يحب المجد، في حين كان شجاعا ومحبا للسلم. ومن المثير للاهتمام أن العديد من العرب الذين حكموا مناطق حماة وحمص وطرابلس السورية، تمت إبادتهم على يد أوليا شلبي، الذي كان عادلا ويهتم بالحقيقة فضلا عن قادة القوات التي تحت إمرته، إلا أنه لم يكن يتقن جيدا اللغة التركية.
لقد كان أوليا شلبي مقاتلا جيدا للغاية، يتقن المبارزة بالسيف، وركوب الخيل. وفي حمص على ساحل نهر العاصي، قام شلبي بتخصيب الصحراء العربية بدماء الأعداء وتكديس جبل كامل من الجثث هناك (حقق العديد من الانتصارات). ويسمى ذلك المكان الآن بتلال "كوتفادج باشا" كناية على اسم شهرته. في الأثناء، يقع قصر شلبي في مدينة أنطاليا، علما وأنه وعلى بوابة القصر علقت سلاسل مشابهة للسلاسل التي تعتمد على اعتبارها أقفالا للحظيرة. ومن هنا جاء المثل القائل بأن البدو العرب مروا من خلال أنطاليا.
في الواقع، انبهر الجميع بمهارات وشجاعة أوليا شلبي التي أظهرها خلال الحملات الصليبية على قونيا ومينغريليا. على العموم، يمكن تفسير انتماء أوليا شلبي إلى قبيلة بالوتكاي، على أنه ينحدر من سلالة العائلة المالكة بمنطقة البالوتوك، أو ينتمي إلى قبيلة تميرغويفسكايه، بشكل عام.
لا يعد جهل الباشاوات الشركسيين باللغة التركية أمرا غريبا. وفي هذا الصدد، هناك العديد من الرسائل التي تبين ذلك والتي تعود بالأساس إلى قسطنطين بازيلي، الذي كان القنصل الروسي في سوريا في أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر. وقد أورد أوليا شلبي، حرفيا، أنه "في هذا الصدد، لا يتكلم العقيد إسماعيل باي، من أصل شركسي، الذي لا يزال يحتفظ بجنسيته يتكلم اللغة التركية بطلاقة". (بازيلي.ك.م الجيش العثماني في سوريا/سوريا ولبنان وفلسطين في وصف الرحالة الروس، الاستعراضات القنصلية والعسكرية للنصف الأول من القرن التاسع عشر).
المهاجرون الشركس
أدت الحرب التي قادتها الإمبراطورية العثمانية ضد روسيا إلى فقدان الإمبراطورية مجموعة من الأراضي الشاسعة في منطقة البلقان. وقد نجم عن هذه الخسارة نزوح عدد كبير من السكان المسلمين. ووفقا لمعاهدة برلين 1878، اضطرت الحكومة العثمانية إلى نقل الشركس في منطقة البلقان إلى المقاطعات الآسيوية، في حين لم يقع توطينهم بالقرب من القوقاز الروسية. (ن. بارزادج. تهجير الشركس الأسباب والنتائج مايكوب.1996. ص 150 .152).
إضافة إلى ذلك، طلبت اليونان من الحكومة العثمانية عدم تركيز الشركس بالقرب من حدودها. من جانبها، نشرت الصحافة الأوروبية أنه دون مشاركة السفارات الروسية في حملة مكافحة الشركس، من المرجح أن الصدام في المنطقة سيتضخم إلى مستوى صراع دولي.
خلال تلك الفترة، قامت الحكومة العثمانية بنقل حوالي 45 ألف لاجئ إلى سوريا من الأراضي التركية الأوروبية. وأسفرت عملية الهجرة من البلقان عن خسائر بشرية كبيرة، فقد قتل نحو 500 لاجئ كانوا على متن باخرة نمساوية إثر غرقها. وقد وردت رسالة من السفارة الفرنسية إلى الحكومة العثمانية في تموز/يوليو سنة 1878، تصف محنة المهاجرين الشركس في المدن الساحلية السورية.
كانت مدينة اللاذقية وطرابلس تضم حوالي 2000 شركسي، في حين كان الكثير منهم يعاني التيفوئيد والجدري. وفي الأثناء، كان هؤلاء الشركس يقيمون في أماكن غير مناسبة، مما دفعهم للمطالبة بالإقامة المؤقتة في المساجد. نتيجة لذلك، برزت جملة من الصدامات بينهم وبين السكان المحليين. (تاريخ الشركس في وثائق وأرشيف الدولة العثمانية. المجلد الأول. المحرر المسئول: (ب.خ. بغزنوكوف. الباحث: كوشهابيف. نالتشيك 2009. ص 93).
في واقع الأمر، سعت الإمبراطورية العثمانية إلى تحقيق هدفين رئيسيين من خلال توطين الشركس في الأراضي السورية. أولا، كسب عدد كبير من الأطراف الموالية لها في سوريا. وثانيا، تعمير مساحات واسعة من الأراضي المهجورة. وفي هذا الإطار، شجعت الحكومة على إنشاء قرى جديدة في حين أوعزت إلى حكام المقاطعات مهمة منع الهجرة من الريف إلى المدن. وبالتالي، كانت الكتلة الشركسية تمثل داعما للحكومة العثمانية، في حين كانت في انسجام مع خططها الاقتصادية.
في سياق متصل، استقر معظم الشركس في منطقة حلب، وهضبة الجولان، فضلا عن محافظة البلقاء في عمان، ومدينة طبريا في فلسطين. وعلى الرغم من حرص السلطات العثمانية على تيسير عملية توطين الشركس، إلا أن اتخاذ خطوة عملية في هذا الشأن ساهم في إثارة العديد من المشاكل. فقد كان هناك مكتب فقط يقع في حلب لخدمة المهاجرين، في حين كان بالكاد يعمل بسبب تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين.
في الأثناء، بادر المكتب بتوطين اللاجئين في أراضي الإمبراطورية العثمانية، ومنحهم مبلغ صغير من أجل القيام بالترتيبات اللازمة، ليتدبروا أمورهم بأنفسهم عقب ذلك. وقد انتظر اللاجؤون لسنوات حتى يتم تخصيص مجموعة من الأراضي لهم، إلا أن انتظارهم كان دون جدوى مما دفعهم للعودة إلى الأناضول. ( س. الشامي المستوطنات الشركسية في الأردن في القرن التاسع عشر. المجلد الأول. نالتشيك 2000. ص 360).
وخلافا للمفاهيم القديمة للإمبراطورية العثمانية، تم إجراء جملة من التغييرات الواضحة جدا في المجال الاقتصادي وعلى مستوى البنية التحتية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في الأراضي السورية والفلسطينية. وفي هذا الصدد، استنتج الباحث في شؤون الإصلاحات العثمانية في سوريا، ديمتري جانتيف، النمو الكبير في عدد سكان سوريا الذي ارتبط بزيادة الدخل الفعلي للسكان.
وتجدر الإشارة إلى أن الدور الحاسم في مسار النمو الاقتصادي الذي أشار إليه جانتيف، أولا وقبل كل شيء كان ذا أثر إيجابي فيما يتعلق بتعمير مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت شاغرة في السابق. وقد تحقق ذلك بفضل تعزيز الأمن العام وتدفق المهاجرين، (معظمهم من المسلمين من القوقاز والبلقان)، فضلا عن تطور إنتاج المحاصيل الزراعية، وتزايد الطلب عليها في الأسواق العالمية. (ديمتري جانتيف. الحداثة والتقليد في الشرق العربي. إصلاحات الإمبراطورية العثمانية في المحافظات السورية أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. موسكو 1998. ص 128).
الدروز والشركس
في سنة 1894، وقَعت صدامات بين الشركس والدروز في لبنان. ونظرا لأن جزءا كبيرا من النخبة الإدارية المحلية كان درزيا، فقد كان المحرضون على الهجمات التي شنت على الشركس يحظون بتأييد ضمني من طرف الدروز. وسرعان ما انتشرت موجة المواجهات على نطاق واسع، إلا أن الدولة العثمانية حاولت التدخل ونفي المعلومات المتعلقة بهذه الحوادث.
وفي خضم هذه المواجهات، توفي 65 شركسيا، و97 درزيا. أما بالنسبة للمحرضين الذين كانوا في الصفوف الخلفية، والذين كانوا يسعون للتمرد على السلطان، فقد أجبروا على دفع تعويضات للسلطات. في هذا الإطار، تم اتخاذ قرار يقضي بدفع 1000 ليرة لمدة سنة على اعتبارها تعويضا عن حياة وممتلكات سيدتين قتلتا من بين الشركس، علما وأن السيدتين كانتا أمين لستة أطفال.
بالإضافة إلى ذلك، كان يتوجب على السلطات تقديم المساعدة المادية إلى الشركس في إطار دعم العائلات المنكوبة. وقد قدرت المساهمة الأولى المقدمة من الدروز بنحو 48 ألف قرش، في حين تم إرغامهم أيضا على إعادة الماشية وغيرها من الممتلكات التي سلبت من الشركس.
في شأن ذي صلة، تفيد وثائق أخرى أنه وقع إجبار الدروز سنة 1905، على دفع مساهمة ثانية تقدر بحوالي 48 ألف قرش من الغرامة الجملية التي قدرت بما يقارب عن 128 ألف قرش. وفي هذا السياق، اتخذ ممثلو الإدارة المركزية العثمانية في سوريا تدابير لحماية المستوطنات الشركسية. في الوقت ذاته، تم دفع تعويضات كبيرة لصالح الشركسيين الذين تضررت ممتلكاتهم ومحاصيلهم.
من جانب آخر، تمكن ممثلو السلطة من إقناع الشركس بالامتناع عن القيام بأي أعمال انتقامية. وقد أثارت هذه الأحداث انتباه السلطات، في حين خلقت سببا آخر للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية. (تاريخ الشركس ص 142. 144).
في السياق ذاته، أدت التناقضات بين المجموعتين العرقيتين إلى وقوع مذبحة جديدة في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1895، كلفت الجانبين مئات من الضحايا. وخلال تلك الفترة، احرق الدروز قرى الشركس في المنصورة ومنطقة عين زيفان. وتجدر الإشارة إلى أنه وضمن هذه المواجهات، تمت معاملة النساء والأطفال الدروز بطريقة جيدة تختلف عن معاملة الدروز للشركس.
في هذا الإطار، انضمت قبيلة بدوية تدعى "الفاضل" إلى الشركس، وتم بعث وحدات جيش مشتركة بقيادة زعيم الشركس، أحمد باي أنشوك. وقد توفي أنشوك في خضم المعركة ضد الدروز، ولكن ذلك لم يحل دون تعرض قوات الدروز لهزيمة ساحقة بفضل الظهور غير المتوقع لوحدات تنتمي إلى الجيش الشركسي بقيادة، عباس باشا ميرزا، ولواء الفرسان التركي التابع لبيروت.
وقد أودت هذه المعركة بحياة 400 شخص من الدروز، في حين قدرت خسائر الشركس بحوالي 27 قتيلا، إضافة إلى 50 قتيلا من البدو وسبعة من رجال الدرك. كما هدمت ست مستوطنات درزية، بما في ذلك موقع "أهورا مزدا".
في الفترة ما بين سنة 1896 و1897، شهدت المنطقة تمردا جديدا من الدروز. ولقمعهم، اضطرت السلطات العثمانية إلى اللجوء إلى القوات العسكرية غير النظامية التابعة للشركس. وظلت العلاقات بين الشركسيين والدروز متوترة لغاية فترة بدء الاستعمار أو الانتداب الفرنسي لسوريا. (أنزور كوشخابيف: الشتات الشركسي في الشرق الأوسط، ص 94. 95).
وجهة نظر كل من غيرترود بيل ولورنس أوليفانت حول الشركس
عمد لورنس أوليفانت إلى تناول مسألة الشركس بالبحث، في حين قام بزيارتهم تحديدا في مستوطناتهم بالقنيطرة. وفي الأثناء، تشير العديد من الشائعات إلى أن الشركس يتمتعون بسمعة سيئة، حيث لا يتسامحون مع أي شخص يتعدى على أمنهم حتى ولو كانوا من الأتراك، في حين غالبا ما تكون عاقبته وخيمة. وقد صرح أوليفانت قائلا: "إلا أنني لا أعرف الكثير من الشعوب التي تمتلك مثل هذه الصفات النبيلة"، (لورنس أوليفانت: أرض جلعاد رحلات في لبنان 1880م ص 49. 50).
في أواخر الثمانينات من القرن التاسع عشر، أشار عالم الآثار الألماني شوماخر إلى تطور المستوطنة الشركسية في القنيطرة، التي تمثل المركز الإقليمي للمنطقة.
خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ارتبط الوجود الشركسي في المنطقة السورية بمشاركة الشركس الكثيفة في الجهاز الإداري والعسكري. وفي هذا الصدد، وفي بداية القرن العشرين كان حاكم سوريا شركسيا، حيث كان الماريشال عثمان فوزي باشا يشغل منصب الحاكم العام لسوريا وقائد شرطة دمشق. قد خلفه فيما بعد الشركسي، خسروف محمد باشا.
في سياق متصل، كان هناك تموقع مكثف لضباط الشركس في المقاطعات العربية الأخرى من الإمبراطورية العثمانية. إضافة إلى ذلك، تولى الضباط الشركس مناصب هامة، على غرار إدارة المدينة المنورة، في حين قاوم محمد شمس الدين باشا تلسروقة، نائب السلطان العثماني في ليبيا بشراسة الاحتلال الإيطالي للبلاد في سنة 1912.
قبل الحرب العالمية الأولى، زارت الباحثة والمستكشفة وعالمة الآثار البريطانية، غيرترود بيل الشرق الأوسط، علما وأنها قد مرت بسوريا في خضم جولتها. وفي هذا السياق، يذكر أن العالمة والباحثة البريطانية تحدثت عن الشركس، وعن طبيعة علاقتهم بالسكان المحليين أي العرب. وفي هذا الصدد، قالت غيرترود بيل أن "الشركس يعتبرون شعبا غير ودود، ولكنهم كادحون جدا كما أنهم محبون للمغامرة كما يعشقون المنافسة وقادرون على تحقيق الفوز".
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الملاحظات والتعليقات التي قدمتها غيرترود بيل حول الشركس كانت إيجابية. وفي بيروت، استقبل الحاكم العام الشركسي الباحثة البريطانية بيل كما قدم لها مرافقة أمنية خاصة، حيث كان بجانبها ضابط شركسي طوال الوقت. وأثناء الرحلة، تعرضت بيل لحادثة اعتبرتها مميزة. وفي هذا السياق، صرحت بيل، قائلة: "كنت أسافر من مادبا إلى ماشيت، وكان يرافقني ضابط شركسي. على الطريق التقينا قبيلة من البدو تنحدر من بني صخر، وهي قبيلة عربية هاجرت من المراعي الشرقية نحو الأردن".
وأضافت غيرترود بيل، واصفة القبيلة، "كانت خيامهم منتشرة في الأرجاء، ورأينا مجموعة من الفرسان بملابس سوداء مدججين بالأسلحة وقد أظهروا لنا نوعا من العدائية. فقد قاموا بإطلاق عيارات نارية في الهواء في شكل تحذير موجه لنا، ولكن عندما رأوا الضابط الشركسي عادوا إلى خيامهم بهدوء".
خلال فترة رحلات الباحثة البريطانية غيرترود بيل، التي زارت المنطقة لينشر تقريرها فيما بعد وتحديدا إثر 8 سنوات في لندن، لاحظت بيل أن الشركس قد احتلوا مناصب بالغة الأهمية في كل من بيروت ودمشق وحلب وعمان ومكة المكرمة. وفي الأثناء، التقت بيل بالشركسي كاظم باشا الشركسي البالغ من العمر 36 سنة، الذي تحدث معها باللغة الفرنسية، كما ولد لديها انطباعا بأنه من محبي الإنجليز.
والجدير بالذكر أن كاظم باشا احتل مناصب عدة بالغة الأهمية على غرار منصب الحاكم العام في القدس. وقد تمكن كاظم باشا خلال فترة حكمه من أن يوفق بين مصالح التوجهات الدينية المختلفة على غرار الكنائس المختلفة (الكاثوليكية والروم والأرثوذكسية والأرمنية) إلى جانب المسلمين واليهود. وفي هذا الصدد، عرف كاظم باشا بولائه الشديد للسلطان. من جهتها، أوردت غيرترود بيل أنه "بعد التطرق لمسألة الوجود البريطاني في عدن والكويت تأكدت من كره الباشا الشركسي للإنجليز".
وفي فترة الانتداب الفرنسي في سوريا، عُين أحمد نامي رئيسا للدولة السورية، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كما تزوج ابنة السلطان عائشة سلطان ليحظى بشرف مصاهرة السلطان. وقد كانت أصول أحمد نامي شركسية. وفي سنة 1925 في سوريا، كان الحاكم العام لسوريا من الشركس، فضلا عن أن قائد شرطة دمشق، عثمان فوزي باشا كان شركسيا بدوره.
أما بالنسبة لقائد سرية خيالة الشرطة، فقد كان ميرزا باشا وصفي قوموق أبزاخ، بينما كان خسروف باشا قائد ولاية الشام في عهد الإمبراطورية العثمانية، علما وأن جميع المذكورين سابقا من الشركس. وفي سنة 1918، تولى الشركسي حامد فخري قيادة القوات التركية خلال الحرب العالمية الأولى.
وحدات الحرس الشركسي
مع نهاية الحرب العالمية، شرعت القيادة الفرنسية في سوريا بضم الشركس وتجنيدهم في صفوفها. وفي ذاك الوقت تم إقامة ما يسمى بوحدات "القوات الخاصة" المكونة من الشركس والدروز والأكراد والعديد من ممثلي الأقليات العرقية الأخرى. وقد كان الشركس يمثلون 8 أسراب في الجيش، و6 أسراب من الدروز و3 من الأكراد، مما يعني أن وحدات الشركس كانت الأكبر. آنذاك، كانت القوات الخاصة بقيادة الكابتن فيلبرت كول (1896-1945)، الذي ارتقى لاحقا إلى رتبة جنرال.
ووفقا للباحث العسكري ميشيل سابين لاينر، "هكذا تبدأ القصة الحقيقة للشركس فيما يتعلق بالقوة العسكرية". عموما، يتسم الشركس بالولاء الدائم لقائدهم والطاعة له، مع العلم أنهم كانوا يتمتعون بالقوة وفي طليعة "القوات الخاصة". علاوة على ذلك، تمكنت القوات الشركسية من تحقيق ما عجز عن تحقيقه غيرهم من الوحدات، في حين ساهم الشركس بطريقة أو بأخرى في تعزيز مؤسسات سوريا الخاصة. ونتيجة لذلك، تمكنت فرنسا من ممارسة الصلاحيات الموكلة لها بمساعدة عصبة من الأمم. (سابين-ليغانيس. "الشركس". باريس، 1987. ص 6).
وفي شأن ذي صلة، تميز الشركس عن غيرهم من المقاتلين في وحدات "القوات الخاصة" بفضل العديد من العوامل، لعل أهمها: التدريبات المكثفة والانضباط والالتزام بالقيام بأكثر العمليات تعقيدا. وخلال سنوات الحرب، أي في الفترة الممتدة بين سنة 1925 و1927، قدرت الخسائر البشرية في صفوف الشركس بحوالي 302 قتيل و600 جريح. من جهة أخرى، كانت الظروف خلال فترة الولاية الفرنسية ملائمة لتطوير الحركة القومية الشركسية التي نشأت في سوريا.
في هذا السياق، تأسست مجموعة من الناشطين بقيادة، أمين سمكوغ في سنة 1927 في القنيطرة، الذي سارع بالعمل على تحسين التعليم الشركسي. وفي الأثناء، تم إصدار كتيبات عن اللغة الشركسية باستعمال الحروف اللاتينية. بالإضافة إلى ذلك، نشرت صحيفة "مارج" مقالات باللغة الشركسية والعربية والتركية والفرنسية.
وفي سنة 1932، تم افتتاح مدرسة شركسية استمرت في العمل لمدة عشرة سنوات في القنيطرة. وكان أبرز أهدافها تعليم الأطفال من جميع أنحاء المحافظة. بالإضافة إلى المواد التي كانت تدرس باللغة العربية، شملت المناهج اللغة الشركسية والعادات الشعبية والأغاني والرقصات.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن لدى فرنسا أي سبب للبقاء في سوريا. وبحلول سنة 1946، تم إجلاء جميع الوحدات الفرنسية. في ذلك الظرف، كانت سوريا المستقلة في حاجة ماسة إلى عسكريين ذوي خبرة، مما دفع معظم الفرسان الشركس إلى الانضمام إلى صفوف الجيش السوري. وفي خمسينات وستينات القرن الماضي، واصل المجتمع الشركسي لعب دور مهم في الحياة السياسية في سوريا.
الشركس يغادرون مرتفعات الجولان
في وقت لاحق، شهد المجتمع الشركسي محنة في خضم الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967، حيث أصبحت ثلاثة أرباع هضبة الجولان تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي. وفي ذاك الوقت، اضطر الشركس إلى مغادرة منازلهم. وبالتالي، بات حوالي 18 ألف شركسي من اللاجئين.
في خضم هذا الوضع الصعب، حاول الشركس طلب المساعدة من قيادة الاتحاد السوفيتي. وقد أعرب، آنذاك، 3000 شخص عن رغبتهم في العودة إلى وطنهم الأم. ولكن السفارة السوفيتية رفضت الطلب الرسمي للشركس، مؤكدة لهم أن الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت غير قادر على مساعدتهم واستقبالهم على أراضيه.
على عكس الاتحاد السوفيتي، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية خطوات أكثر فعالية لمنح اللاجئين الشركس فرصة الإقامة على أراضيها. وقد اغتنم هذه الفرصة حوالي 1000 شخص وتوجهوا نحو الولايات المتحدة. وفي سنة 1948، تم تأسيس مؤسسة "الشركسية الخيرية". وتدريجيا تمكنت هذه المؤسسة من إنشاء علاقات ثقافية مع قبردينو-بلقاريا وأديغيا.
في الأثناء، أخذ الشركس يتلقون المناهج والكتب التعليمية من بلدانهم الأصلية. أما في مؤسسات التعليم العالي في الاتحاد السوفييتي، كان هنالك العديد من الطلبة الشركس من سوريا. وقد اتبعت سوريا سياسة تقارب مع الاتحاد السوفييتي، أكثر مما هو عليه الحال مع تركيا، البلد التابع لحلف شمال الأطلسي.
كانت مغادرة الشركس للقوقاز بمثابة تعبير عن رفضهم أن يصبحوا تحت رعاية الإمبراطورية الروسية، في حين باتوا رعايا الإمبراطورية العثمانية التي دعمت التجارة والعلاقات الاقتصادية معهم بعد أن اضطهدهم الروس. وتجدر الإشارة إلى أن الدولة العثمانية القوية تمكنت من إنشاء علاقات مع الشعوب القوقازية المقسمة إلى قبائل.
وفي هذا الصدد، وصف الباحث الأجنبي جيمس ريد هذه العلاقة، قائلا إن "الاقتصاد القائم على الغارات والسرقة مع حد أدنى من الجهد في المجال الزراعي أو الصيد، يسمح بسهولة بتحول النساء والأطفال إلى عبيد في أسواق إسطنبول الكبيرة. ويذكر أن هذه التجارة ازدهرت لعدة قرون ثم بدأت في التقهقر في القرن التاسع عشر".
من الواضح أن العثمانيين قدروا مهارات الجنود الشركس العسكرية، وخبرتهم العالية التي اكتسبوها نتيجة حرب العصابات على مر العصور في خضم مواجهتهم الطويلة مع الروس. وفي هذا الصدد، أدى ميل الشركس إلى حرب العصابات وعدم الرغبة أو بالأحرى عدم القدرة على العمل على اعتبارهم جزءا من وحدات عسكرية نظامية إلى انضمامهم إلى قوات شبه عسكرية وغير نظامية في الجيش التركي أو العثماني، آنذاك.
ومن المثير للاهتمام أن الوحدات التي انضم إليها الشركس كانت تضم العديد من التركيبات العرقية المتنوعة على غرار الأتراك، والعرب والألبان والأكراد والبلغار وغيرهم.
وفي سياق متصل، تعد الوحدات غير النظامية في صلب جيش العثماني، المسؤولة الأولى عن غالبية المذابح التي تمت ضد السكان المدنيين في البلدان التي غزاها الأتراك. وبناء على ذلك، كانت الفرق غير النظامية التي تضم الشركس وغيرها من الأعراق تتمتع بالحرية التامة في انتهاج بعض الممارسات ضد الشعوب التي قام الجيش العثماني بغزو أراضيها.
فعلى سبيل المثال، ارتكب سيرة أحمد آغا، مذبحة مروعة ضد سكان قرية باتاك البلغارية سنة 1876. وعموما، يعتقد بعض المؤرخين أن فريقه كان من الشركس، وقد قتلوا العديد من الرجال والنساء والأطفال وكبار السن.
وفي هذا السياق، تسببت الوحدات غير النظامية التي تضم الشركس الكثير من المتاعب للسلطات التركية. في المقابل، كانت هذه الوحدات القتالية مستقلة وتعمل على مسؤوليتها الخاصة، وأحيانا ضد رغبة السلطات العثمانية. ووفقا لما أكده جيمس ريد، فقد "كان الشركس ضمن القوات غير النظامية التابعة للجيش العثماني، وكثيرا ما كانوا يعتبرون الجنود التابعين للجيش النظامي أعداء لهم. كما لا تشمل الأخلاق الشركسية مفهوم الصداقة والحوار السلمي، بل على العكس تماما".
وعلى الرغم مما ذكر آنفا، إلا أن الشركس كانوا يحملون في جعبتهم العديد من تكتيكات الحرب التي قدموا بها من القوقاز. من جهة أخرى، تبنى الأشخاص الذين فقدوا أوطانهم بسبب الغزو الروسي نظرة سلبية تجاه المسيحيين في بلغاريا وصربيا وخصوصا أرمينيا، حيث اعتبروهم بمثابة عدو لدود لهم. ومن هذا المنطلق، حاولت الوحدات العسكرية الشركسية الثأر من الأطراف الذين تسببوا في فقدانهم لأوطانهم بل واعتبروا أن من واجبهم الانتقام من قتلة أهلهم. وبالتالي، من الضروري أن يسفكوا دماء حلفاء الروس، أعدائهم الحقيقين.
وعلى ضوء ما ذكر آنفا، ارتكب الشركس جرائم قتل وسرقة وأعمال تخريب، اعتبرها البعض من صنيع الإمبراطورية العثمانية خلال الفترة الممتدة بين 1875 و1878. وفي هذا الإطار، يشارك جيمس ريد رأي عالم الاجتماع إيفان هادزيسكي، في "أن الأسباب الكامنة وراء الانتفاضة البلغارية وغيرها من الانتفاضات في منتصف 1870، كانت بالأساس جرائم القتل التي ارتكبتها المجموعات غير النظامية بمختلف أعراقها، ولكن تلك التي ارتكبها الشركس على وجه الخصوص".
وفي هذا السياق، تطرق جيمس ريد للمذبحة الوحشية التي قام بها الشركس في بلدة جيولا البلغارية في تموز/ يوليو سنة 1877، حيث "قاموا بتنفيذ عمليات إعدام جماعية. وفي الكنسية المحلية، ذبح 175 امرأة وطفلا. ويذكر أن من بين الشهود على هذه الفظائع العقيد لينوكس، والملازم شيرمزيد، وغيرهم". وأضاف ريد، أن " الشركس توجهوا إلى القرية ومن ثم تم قتل الجميع دون استثناء. وقد حاول البريطانيون مساعدة أولئك الذين نجو من الذبح في فناء الكنيسة. لقد عاشت القرية مشاهد فظيعة: جبال من الجثث، في حين كان هناك طفل يحاول مص ثدي أمه الميتة".
من جانب آخر، أشار جيمس ريد إلى المغامر البريطاني، فالنتين بيكر، الذي أكد بثقة أن الشركس إلى جانب بعض الجنود غير النظاميين، ارتكبوا العديد من الفظائع المروعة. وفي الأثناء، كان فالنتين بيكر، المعروف باسم بيكر باشا، في خدمة الأتراك كما شارك في حرب القرم. علاوة على ذلك، كان بيكر جزءا من العديد من العمليات العسكرية في مصر وأرمينيا والبلقان.ومن هذا المنطلق، كان فالنتين بيكر قادرا على وصف البعض من تصرفات الشركس على غرار السرقات، في منتهى الدقة.
في المقابل، أشاد بيكر ببعض الصفات الإيجابية التي يتمتع بها الشركس، حيث كانوا يتسمون برباطة الجأش في القتال، بالإضافة إلى القوة في تسديد الهجمات وخوض المعارك. وقد مكنت هذه المهارات الجيش العثماني من تحقيق انتصارات عدة.
خلافا لذلك، اتصف الشركس بالعديد من السلبيات. ونتيجة لذلك، كانوا من أكثر العرقيات التابعة للقوات النظامية في الجيش العثماني التي قامت بتنفيذ جرائم ضد الشعوب التي تم غزو أراضيها، مما أساء لسمعة الإمبراطورية العثمانية.
في الوقت الراهن، غالبا ما يتم التطرق إلى مسألة علاقة المهاجرين القوقازيين بقتل السكان المسالمين في البلدان التي غزاها الجيش العثماني. وفي الأثناء، واجه الشعب الشركسي، التهم الموجه ضده برد فعل غامض. ولكن، وفي كل الأحوال، لا يمكن لأحد أن يلقي اللوم على الشركس لأحداث مر عليها أكثر من 200 سنة. في الوقت نفسه، سيكون من الخطأ تجاهل الحقيقة التاريخية التي تشير إلى حجم الإساءة التي ارتكبها الشركس في حق الإمبراطورية العثمانية التي دعمتهم فضلا عن الضحايا من الأبرياء.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!