د. سمير صالحة - العربي الجديد
خيبة أمل يعيشها بعض الإعلام العربي بسبب "الغزو" التركي الذي يحمّلون زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، مسؤوليته، لأنه أراد استغلال الفراغ الأمني والسياسي في سورية، والمسارعة إلى التمدد نحو الحسكة ومنبج، تمهيداً لربط الكانتونات في جرابلس وعفرين.
خيبة أمل أخرى في صفوف قيادات "الاتحاد الديمقراطي"، بسبب "التوغل" التركي الذي رأوا فيه "اعتداءً سافراً على الشؤون الداخلية السورية"، وليس سورية وأرضها ووحدتها. خيبة أمل ثالثة يعيشها النظام السوري الذي لم يجد أحداً يقف إلى جانبه سوى التحذير الروسي الخجول الذي ورّطه، قبل ساعات من العملية العسكرية في جرابلس، بتوقيع اتفاقية تسليم الحسكة للأكراد، متراجعاً عن كل التهديدات والتحدّيات التي أطلقها، وحملت معها تساؤلاً عما إذا كان قد انتهى شهر العسل بين بشار الأسد والوحدات الكردية في المنطقة.
خيبة أمل رابعة عاشها تنظيم داعش، والمراهنون عليه ورقة من الممكن الاستمرار في لعبها ضد تركيا، فغادر جرابلس من دون مقاومة، وهم لا يعرفون ما إذا كان سيقاتل في مكانٍ آخر أمام تمسّك تركيا بتطهير المناطق الحدودية من "داعش"، ومشروع الفيدرالية الكردي، وتسهيل انتشار قوات المعارضة السورية والجيش الحر وتمركزها، لبناء المنطقة الآمنة أو العازلة التي يراد لها أن تكون الخطوة الأولى على طريق صناعة المشهدين، السياسي والأمني، الجديدين في سورية.
وصل نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، صباح الأربعاء الماضي، إلى أنقرة، في زيارة ليوم واحد.
لم يكن في استقباله حشود (وأنصار) "العدالة والتنمية" في تركيا، يلوحون بيافطات "بالروح بالدم نفديك يا بايدن"، لأنه يعرف أن العلاقات التركية الأميركية تتراجع باستمرار، بسبب التوتر والتباعد في قراءة كثير من الملفات الثنائية والإقليمية، وفي مقدمها تفرعات المشهد السوري. كان حجم الاستقبال ضعيفاً، ويعكس الترجمة التركية على طريقة استقبال الرئيس، رجب طيب أردوغان، في زيارته الأخيرة أميركا.
للتذكير فقط، أبلغ بايدن، في زيارته تركيا قبل أشهر، الأتراك أن واشنطن لم تعد تبحث عن أي دور لتركيا في ملفات الأزمة السورية وخطط الحرب على داعش، ورفض واشنطن تمسّك الأتراك بتخلي الإدارة الأميركية عن الحليف الكردي الجديد، صالح مسلم، لأن الشروط والمطالب التركية تعرقل وضع اللمسات الأخيرة على المخطط الأميركي – الروسي الإقليمي الجديد.
اعتذر هذه المرة بايدن عن حضوره المتأخر بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وطلب من الرئيس التركي، أردوغان، أن يتدخل مباشرةً لقطع الطريق على الحملات الإعلامية التي تتهم أميركا بدورٍ ما في المحاولة الانقلابية الفاشلة، وحاول أن يقنع الأتراك ببعض الصبر في موضوع تسليم فتح الله غولن الورقة المنتهية، وقال لأكراد سورية إن واشنطن ستتخلى عنهم إذا ما تمسكوا بالبقاء في غرب الفرات، لكن أهم ما قام به إشرافه المباشر، جنباً إلى جنب، مع الأتراك وقوات المعارضة السورية على عمليات "درع الفرات"، وتكراره أن القوات الأميركية شاركت بشكل مباشر فيها.
واختار الأتراك تسمية العملية "درع الفرات"، وقبل بايدن ما أراده الشريك التركي. الظرف هو داعش، والمظروف هو إعادة القوات الكردية إلى شرق الفرات. كان التفاهم الأهم بين تركيا وأميركا، كما يبدو، حول أن تتكفل تركيا بتسريع العمليات ضد داعش في شمال سورية، وأن تتحمل الإدارة الأميركية مسؤولية إيقاظ حزب الاتحاد الديمقراطي من حلم الكونفيدرالية بالتفاهم مع روسيا وإيران.
مشكلة الأتراك مع بايدن أنه يأتي محملاً بالشروط والمطالب، ويستمع إلى الأتراك في شروطهم ومطالبهم المضادة، ثم يعود دائماً بيد فارغة، ثم يقرّر العودة والمحاولة ثانياً، لكسب الفرص والوقت. تختلف زيارة هذه المرة عن سابقاتها، فقد أهدته تركيا نسخةً طبق الأصل عن قرار البرلمان التركي حول المصالحة مع إسرائيل، وأفهمته أن التقارب التركي الروسي سيستمر بشكل أقوى، لأن مصلحة تركيا تتطلب ذلك، وأن طلب أنقرة هو ليس إعادة غولن، بل تدمير مؤسساته المنتشرة في المدن الأميركية، وقد تحولت إلى لوبي معادٍ لتركيا، ومصالحها الإقليمية، وهذه هي المشكلة الحقيقية مع واشنطن التي تصرّ على تجاهل ذلك.
كان بايدن يعرف، منذ البداية، أن الأتراك لن يتراجعوا عن مواقفهم ومطالبهم، وأنهم سيخيبون أمله، ولن يضعوا بين يديه أي تعهد، أو ضمانة، أو تنازلاتٍ، ورفضهم الأخذ بنصائحه في عدم الاقتراب كثيراً من روسيا وإيران والصين. لذلك، هو لم يأت محملاً بالتهديد والوعيد هذه المرة، جاء يقول عكس ما قاله في المرات السابقة، إن تركيا ستجد صعوبةً أكبر في التعامل مع المشهد الاستراتيجي الإقليمي الجديد. جاء يقرّ بأن واشنطن تهنئ تركيا على كسب الود الروسي، والتطبيع مع إسرائيل، وقبول فتح الطريق أمام مرحلة انتقاليةٍ مرنة في سورية، وهي كلها سهلت للأتراك فرص توسيع رقعة الخيارات والمناورة الإقليمية مجدّداً.
كان بايدن في طريق العودة يمنّي النفس برؤية يافطات "بالروح بالدم نفديك يا بايدن"، بعدما جلس في غرفة العمليات العسكرية التركية، ليتابع التفاصيل على الأرض، ويشارك في فرحة إنجاز عملية تحرير جرابلس، لكنه يعرف صعوبة ذلك، بعد الأسابيع القاسية التي مرّت بها تركيا، وهي تعيش أجواء تحولاتٍ سياسية وأمنية في الداخل والخارج، وأن الشعار الأكثر رواجاً الذي يردّده الشارع التركي العريض، بإسلامييه وقومييه ويسارييه، اليوم هو "يا الله بسم الله والله أكبر".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس