سليم الخطيب - خاص ترك برس

قالوا قديمًا:

ومن لمْ تكنْ أوطانُه مفخرًا له..
فليس له في موطنِ المجد مفخرُ.

ما إن تفتّق لساني بالكلام حتى سألتُ عن هويتي، فقيل لي يومها:

فانفرجت أساريري، وعشتُ بهويتي أفاخر بها الثريا، وسرْتُ في سبيلي مطمئنّ البال، لكن! ما لبثتُ حتى علمت أني:

عربيّ أنتمي إلى أمة عريقةٍ، ذات تاريخٍ طويل وأمجاد.

ومن أنبأني أني عربيّ من نسل عدنان وغسان، وأخوالي قحطانيون، نبهني أن لا تعارض بين هويتي الكبرى كمسلم، وهويتي الأصغر منها كعربي، بل فيهما انسجامٌ كبير.

وعشتُ بهذين الهويتين دهرًا، لكنّ شيئًا في داخلي ما زال يتحرك، وفؤادي ما فتئ يتقلّب، فهويتي الإسلامية أو العربية لم تروِ عطشي في حبي لموطني الذي ملك عليّ عقلي ولبي، فأيقنت أن جواب سؤالي لم يكتمل، فلم يهدأ لي بالٌ، ولا استقرت بيَ أرضٌ حتى سمعتُ القاعدة التي تقول:

(ما لم تنضج الهوية الصغرى حتى تثمر انتماءً تصغر بجواره كل التضحيات، لن تنتمي يوماً إلى أي هوية كبرى!).

لقد أدرك نظام العصابة المجرمة في سوريا هذه القاعدة، فعمل على هدمها بكل ما أوتي من وسائل، ليس أولها ترك البلاد مستباحةً للقوميين العرب ليشتتوا أذهان الشباب، ولا آخرها استغلال القضية الفلسطينية؛ فبدلاً من أن يجعلها قضيةَ قيَمٍ بالدرجة الأولى ينبغي أن تتّحد البشرية تحت ظلالها وتجتمع القوى كلها في سبيلها، جعلها سلعة للبيع الرخيص!، وبدلًا من أن تكون عاملًا قويًا في تمتين الهوية العربية، صيّرها مدعاةً للكفر بالأمة العربية ومن ثم الإسلامية!، فما قيمة أمةٍ لا تنتصر لتاريخها، ولا لقضيتها، ولا تتطهر مقدساتُها!؟.

ومن ثَمّ طفق يملأ بلدَ السلام كراهيةً وحقداً أسود؛ فاضطهد من ليسوا عرباً من أهل سوريا الحبيبة، فسجن التركمان، فقط لأنهم يتقنون لغةً غير العربية!.

واضهد الأكراد وحرمهم من أبسط حقوقهم القانونية، فضلاً عن التعليمية أو الصحية، ولفّق لهم تهماً ليس أهمها الرغبة في الانفصال!.

وأما المسلمون فقد سخّر كل وسائل الإعلام التي كانت حصريةً له للسخرية من رموزهم، وتصوير شيوخهم في المسلسلات على أنهم انتهازيون يستغلون بساطة الناس ليملؤوا جيوبهم وبطونهم، حتى أعطت حركة الإخوان المسلمين الذريعة الكافية له في الثمانينات، والتي تلقفها بكل ما أوتي من قوة؛ من سجنٍ لمن ألقى -مرة في حياته- التحية على الإخوان المسلمين، إلى تهجير النّخب والعلماء والرموز، أو تضييق سبُل الحياة عليهم حتى يرحلوا مكرهين!، أما الكفاءاتُ والنّخب المغتربة التي أرادت أن تثمر شجرةُ معرفتها في موطنها فقد أوصد كلَّ السبل في وجهها حتى كلّت وملّت!.

أما مسيحية سوريا: فزعم أنهم ليسوا إلا عملاء للغرب يريدون إعادة الاستعمار، وشرع يدمّر كل جميل تعرفه في بلدك أو محلتك.

وأظن أنّ في أذهان القراء الكثير من الأمثلة، ليس أولها هدم سوق العصرونية التاريخي بحجة شق شارع للسيارات!، وليس آخرها تلويث ماء بردى، والعمل على تدمير الغوطة الشرقية وقطع أشجارها لأجل شق طريق المطار!، ناهيك عن قانون استملاك الأراضي الذي حوّل خلاله أثرياء سورية إلى فقراء!، وعن قانون الإيجار الجائر الذي هجّر خلاله أهالي دمشق -مثلاً- عن بيوتهم!.

نعم! كان يريد أن يقطعك عن كل ما يربطك بموطنك، ويمحوَ من ذهنك كل ما يدعوك للحنين له.

بعد ذلك: أيّ هوية ستصمد في ذهن الشباب؟ الذي كان تائهاً أصلاً بين هوياته الكبرى.

لقد ساهم الإسلاميون -من حيث علموا أو لم يعلموا- في ضياع الهوية السورية، وإني لأزعم أنهم ما أدركوا أنه لا تعارض بين الهوية الصغرى والكبرى.

تاريخنا الإسلامي مليء بالأدلة الواضحة على ذلك:

أليس يلحق أغلب أسماء أئمة الإسلام كلماتٍ تنسبهم لموطنهم!

ألم يصرّ الإسلام على حفظ الأنساب وكان أبو بكر الصديق -ثاني رجل في الإسلام- نسّابة!؟

ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه يوم حُنين أن ينادي الصحابة بهوياتهم الصغرى!

ألم يقبل النبي بحكم سعد بن معاذ في بني قريظة وفقاً لأعراف أهل المدينة!.

وأما القوميون العرب: فلقد كانوا الأداة لتلك الكذبة التي أصمّ آذاننا وصدّع رؤوسنا بها المجرم الأب ومن بعده المجرم الابن.

نعم! لقد ساهمنا جميعا في ضياع الهوية لمّا أهملنا الحديثَ عنها، والعملَ على بناءها في أسرنا وتحت سقف بيوتنا.

لن ينجح مشروعٌ وطنيّ، ولن نستطيع فضح الانتهازيين والوصوليين الذين يسعَون لبيع سوريا وتدمير مقدرتها، والعودة بها إلى ما وراء التاريخ؛ إلا إذا عملنا على بناء الهوية السورية، وعزّزنا الانتماء إليها.

بلادنا نظيفةٌ لطيفة، كبياض الياسمين ونقائه، لكنها اليوم ترزح تحت ظلم البعث وحقده.

عن الكاتب

سليم الخطيب

عضو في الائتلاف الوطني السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس